| لمَّا أَتمَّ نوحٌ السَّفِينة | وحَرَّكَتْها القُدْرَة المُعِينة |
| جَرى بها ما لا جَرَى بِبالِ | فما تعالى الموْجُ كالجِبالِ |
| حتى مشى الليثُ مع الحمار | وأَخَذ القِطُّ بأَيدِي الفارِ |
| واستمعَ الفيلَ إلى الخنزيرِ | مُؤتَنِساً بصوتِه النَّكيرِ |
| وجلس الهِرُّ بجنب الكلبِ | وقبَّل الخروفُ نابَ الذِّئبِ |
| وعطفَ البازُ على الغزالِ | واجتمع النملُ على الأكَّال |
| وفلت الفرخة ُ صوفَ الثعلب | وتيَّمَ ابنَ عرسَ حبُّ الأرنبِ |
| فذهبتْ سوابقُ الأحقادِ | وظَهر الأَحبابُ في الأَعادي |
| حتى إذا حطُّوا بسفحِ الجودي | وأيقنوا بعودة ِ الوجودِ |
| عادوا إلى ما تَقتَضيهِ الشِّيمة | وَرَجَعُوا للحالة القديمة |
| فقسْ على ذلك أحوالَ البشرْ | إذْ كلهم على الزمان العادي |
قصيدة احمد شوقي
مجموعة مميزة لقصائد أمير الشعراء و احد شعراء العصر الحديث أحمد شوقي.
لم يَتَّفِقْ مما جَرَى في المركبِ
| لم يَتَّفِقْ مما جَرَى في المركبِ | ككذبِ القردِ على نوحِ النبي |
| فإنه كان بأقصى السطحِ | فاشتاقَ من خفته للمزحِ |
| وصاحَ: يا للطير والأسماكِ | لِموْجَة ٍ تجِدُّ في هَلاكي! |
| فَبعثَ النبي له النسورا | فوجَدَتْه لاهياً مسرورا |
| ثم أتى ثانية ً يصيحُ | قد ثقبتْ مركبنا يا نوحُ! |
| فأَرسَل النبيُّ كلَّ مَن حَضرْ | فلم يروا كما رأى القرد خطر |
| وبينما السَّفيهُ يوماً يَلعبُ | جادَتْ به على المِياهِ المركبُ |
| فسمعوه في الدُّجى ينوحُ | يقولُ: إني هالكٌ يا نوحُ |
| سَقطْتُ من حماقتي في الماءِ | وصِرْتُ بين الأَرضِ والسماءِ |
| فلم يصدقْ أحدٌ صياحهْ | وقيلَ حقاً هذه وقاحَهْ |
| قد قال في هذا المقامِ مَن سَبَقْ | أكذبُ ما يلفي الكذوبُ إن صدق |
| من كان ممنواً بداءِ الكذبِ | لا يَترُكُ الله، ولا يُعفِي نبي! |
قد ود نوح أن يباسط قومه
| قد وَدّ نوحٌ أَن يُباسِطَ قوْمَهُ | فدعا إليهِ معاشرَ الحيوانِ |
| وأشار أنْ يليَ السفينة َ قائدٌ | منهم يكونُ من النهى بمكان |
| فتقدّمَ الليثُ الرفيع جلاله | وتعرّضَ الفيلُ الفخيمُ الشان |
| وتلاهما باقي السباعِ، وكلهمْ | خَرُّوا لهيبتِهِ إلى الأَذقان |
| حتى إذا حيُّوا المؤيَّدَ بالهدى | ودَعَوْا بطولِ العزِّ والإمكان |
| سبقتهم لخطابِ نوحٍ نملة ٌ | كانت هناكَ بجانِبِ الأَرْدان |
| قالت: نبيَّ اللهِ، أرضى فارسٌ | وأَنا يَقيناً فارسُ الميْدانِ |
| سأديرُ دفتها، وأحمي أهلها | وأقودها في عصمة ٍ وأمان |
| ضحكَ النبيُّ وقال: إنّ سفينتيَ | لهِيَ الحياة ، وأَنتِ كالإنسان |
| كل الفضائِل والعظائمِ عنده | هو أَوّلٌ، والغيْرُ فيها الثاني |
| ويودُّ لو ساسَ الزَّمانَ، وما لَهُ | بأَقلِّ أَشغالِ الزمان يَدان |
الدبُّ معروفٌ بسوءِ الظنِّ
| الدبُّ معروفٌ بسوءِ الظنِّ | فاسمعْ حديثَهُ العجيبَ عنِّي |
| لمَّا استطال المُكْثَ في السَّفينهْ | ملَّ دوامَ العيشة ِ الظنينه |
| وقال: إن الموْتَ في انتظاري | والماءُ لا شكَّ به قراري |
| ثم رأى موجاً على بعدٍ علا | فظنَّ أن في الفضاء جبلا |
| فقال: لا بُدَّ من النزولِ | وصَلْتُ، أَو لم أَحْظَ بالوُصولِ |
| قد قال مَن أَدَّبَهُ اختبارُه | السعيُ للموتِ ولا انتظاره! |
| فأَسلمَ النفسَ إلى الأمواجِ | وهْيَ مع الرياحِ في هياجِ |
| فشرِبَ التعيسُ منها، فانتفَخْ | ثم رَسا على القرارِ، ورسَخ |
| وبعدَ ساعتَينِ غِيضَ الماءُ | وأَقلَعَتْ بأَمْرِهِ السماءُ |
| وكان في صاحبنا بعض الرمق | إذ جاءَهُ الموتُ بطيئاً في الغرَقْ |
| وكان في صاحبنا فوقَ الجودي | والرَّكبُ في خيْرٍ وفي سُعودِ |
| فقال: يا لجدِّي التعيسِ | أسأت ظني بالنبي الرئيسِ! |
| ما كان ضَرّني لو امتثَلتُ | ومِثلَما قد فعلوا فعلتُ؟! |
سعي الفتى في عيشه عباده
| سعْيُ الفَتى في عَيْشِهِ عِبادَة | وقائِدٌ يَهديهِ للسعادة |
| لأَنّ بالسَّعي يقومُ الكوْنُ | والله للسَّاعِينَ نِعْمَ العَونُ |
| فإن تشأ فهذه حكاية | تعدُّ في هذا المقامِ غاية |
| كانت بأرضِ نملة ٌ تنبالهْ | لم تسلُ يوماً لذة َ البطالة |
| واشتهرتْ في النمل بالتقشُّف | واتَّصفَتْ بالزُّهْدِ والتَّصَوُّفِ |
| لكن يقومُ الليْلَ مَن يَقتاتُ | فالبطْنُ لا تَملؤُه الصلاة ُ |
| والنملُ لا يَسعَى إليهِ الحبُّ | ونملتي شقَّ عليها الدأبُ |
| فخرجَتْ إلى التِماسِ القوتِ | وجعلتْ تطوفُ بالبيوتِ |
| تقولُ: هل من نَملة ٍ تَقِيَّهْ | تنعمُ بالقوتِ لذي الوليهْ |
| لقد عَيِيتُ بالطِّوى المُبَرِّحِ | ومُنذ ليْلتيْن لم أُسَبِّحِ |
| فصاحتِ الجاراتُ يا للعارِ | لم تتركِ النملة ُ للصرصارِ |
| متى رضينا مثلَ هذي الحالِ | متى مددنا الكفَّ للسؤالِ |
| ونحن في عين الوجودِ أمَّة | ذاتُ اشتِهارٍ بعُلوِّ الهمّة |
| نحملُ ما لا يصبرُ الجمالُ | عن بعضِه لو أَنها نِمالُ |
| أَلم يقلْ من قولُه الصوابُ | ما عِندنا لسائلٍ جَوابُ |
| فامضي، فإنَّا يا عجوزَ الشُّومِ | نرى كمالَ الزهدِ أن تصومي |
يمامة كانت بأعلى الشجرة
| يمامة ٌ كانت بأَعلى الشَّجرة | آمنة ً في عشِّها مستترة |
| فأَقبلَ الصَّيّادُ ذات يَومِ | وحامَ حولَ الروضِ أيَّ حومِ |
| فلم يجِدْ للطَّيْر فيه ظِلاَّ | وهمَّ بالرحيلِ حينَ مَلاَّ |
| فبرزتْ من عشِّها الحمقاءُ | والحمقُ داءٌ ما له دواءُ |
| تقولُ جهلا بالذي سيحدثُ | يا أيُّها الإنسانُ، عَمَّ تبحث |
| فالتَفَتَ الصيادُ صوبَ الصوتِ | ونَحوهَ سدَّدَ سهْمَ الموتِ |
| فسَقَطَت من عرشِها المَكينِ | ووقعت في قبضة ِ السكينِ |
| تقول قولَ عارف محقق | مَلكْتُ نفْسِي لو مَلكْتُ مَنْطِقي |