كان قلبِيَ فجرٌ، ونجومْ، | وبحارٌ لا تُغَشّيها الغيومْ |
وأناشيدٌ، وأطيارٌ تَحُومْ | وَرَبيعٌ، مُشْرِقٌ، حُلْوٌ، جَميلْ |
كانَ في قلبي صباحٌ، وإياهْ، | وابتِسَامَاتٌ ولكنْ… واأسَاهْ |
آه! ما أهولَ إعْصَارَ الحياة | آه! ما أشقى قُلُوبَ النّاسِ! آه |
كان في قلبيَ فجرٌ، ونجومْ، | |
فإذا الكلُّ ظلامٌ، وسديمْ..، | |
كان في قلبيَ فجرٌ، ونجومْ | |
يا بني أمِّي! تُرى أينَ الصّباح | قد تقضَّى العُمْرُ، والفجْرُ بعيدْ |
وَطَغى الوادي بِمَشْبُوبِ النواح | وانقَضَتْ أنشودة ُ الفَصْل السَّعيدْ |
أين نايي؟ هل ترامتْه الرياح | أين غابي؟ أين محرابُ السُّجُودْ.. |
خبِّروا قلبي. فما أقسى الجراحْ | كيف طارتْ نشوة ُ العيشِ الحَميد |
يا بني أمِّي! تُرى أين الصَّباح | |
أوراءَ البحر؟ أم خلفَ الوُجود | |
يا بني أمي؟ ترى أينَ الصباح | |
ليت شعري! هل سَتُسَلِيني الغَداة ْ | وتعزِّيني عن الأمسِ الفَقِيدْ |
وتُريني أن أفراحَ الحياة | زُمَرٌ تمضي، وأفواجٌ تعود |
فإذا قلبي صياح، وإيّاه.. | وإذا أحلاميَ الأولى وَرُودْ.. |
وإذا الشُّحْرورُ حُلْوُ النَّغماتْ.. | وإذا الغَابُ ضِيَاءٌ وَنَشِيدْ.. |
أم ستنساني، وتُبْقيني وحيد؟ | |
ليتَ شِعْري! هل تُعَزِّيني الغَدَاة ْ |
قصائد ابو القاسم الشابي
أروع قصائد الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي الملقب بشاعر الخضراء.
والضجر
والضَّجَرْ | أيُّ طَيْر |
لَيْتَ شِعْري! | |
يَسْمَعُ الأَحْزَانَ تَبْكِي | |
وذا جنونٌ ، لعمري، كلهُ جزعٌ | حَاكُوا لَكُمْ ثَوْبَ عِزٍّ |
فَأَرى صَوْتي فَرِيدْ! | يهيجُ فيها غبارا |
تبقي الأديبَ حمارا | |
قد كبلَ القدرُ الضاري فرائسهْ | فما استطاعوا له دفعاً، ولا حزروا |
لا يعرفُ المرءُ منها | ليلاً رأى أمْ نهارا |
يخالُ كلَّ خيالٍ | |
ـنوى قلى ً، وصغارا | |
لبستم الجهلَ ثوباً | تخذتموهُ شعارا |
كَالكَسِيرْ؟ | قطنتمُ الجهلَ دارا ؟ |
لَسْتُ أدري | |
خلعتموهُ احتقارا | |
يا ليتَ قومي أصاخوا | لما أقولُ جهارا |
وَأَعْقَبَتْهُمْ خُمَارا | كالموتِ، لكنْ إليها الوردُ والصدرُ |
يا شعرُ! أسمعتَ لكنْ | |
فلا تبالِ إذا ما | أعطوا نداكَ ازورارا |
عش بالشعور وللشعور فإنما
عِشْ بالشُّعورِ وللشُّعورِ فإنَّما – دُنْياكَ كونُ عواطفٍ وشعورِ |
شِيدَتْ على العَطْفِ العميقِ وإنَّها – لَتَجِفُّ لو شِيدَتْ على التَّفْكيرِ |
وتَظَلُّ جامِدَةَ الجمالِ كئيبةً – كالهيكلِ المتهدِّم المهجورِ |
وتَظَلُّ قاسيَةَ الملامِحِ جهْمةً – كالموتِ مُقْفِرَةً بغيرِ سُرورِ |
لا الحُبُّ يرقُصُ فوقها متغنِّياً – للنَّاس بَيْنَ جداولٍ وزُهورِ |
مُتَوَرِّدَ الوجناتِ سَكرانَ الخطى – يهتزُّ من مَرَحٍ وفَرْطِ حُبورِ |
متكلِّلاً بالورْدِ ينثرُ للورى – أَوراقَ وردِ اللَّذّةِ المنضُورِ |
كلاّ ولا الفنُّ الجميلُ بظاهرٍ – في الكونِ تحتَ غَمامةٍ من نُورِ |
متَوشِّحاً بالسِّحْرِ ينفُخُ نايَهُ – المشبوبَ بَيْنَ خمائلٍ وغديرِ |
أَو يلمسُ العودَ المقدَّسَ واصفاً – للموت للأَيَّامِ للدَّيجورِ |
مَا في الحَيَاةِ من المسرَّةِ والأَسى – والسِّحْر واللَّذّاتِ والتغريرِ |
أَبداً ولا الأَملُ المجنَّحُ منْشِداً – فيها بصوتِ الحالمِ المَحْبُورِ |
تِلْكَ الأَناشيدَ التي تَهَبُ الوَرَى – عزْمَ الشَّبابِ وغِبْطَةَ العُصفورِ |
واجعل شُعورَكَ في الطَّبيعَةِ قائداً – فهوَ الخبيرُ بتيهِهَا المَسْحُورِ |
صَحِبَ الحياةَ صغيرةً ومشى بها – بَيْنَ الجماجمِ والدَّمِ المَهْدورِ |
وعَدَا بها فوقَ الشَّواهِقِ باسماً – متغنِّياً مِنْ أَعْصُرِ ودُهورِ |
والعقلُ رغْمَ مشيبهِ ووقَارِهِ – مَا زالَ في الأَيَّامِ جِدّ صغيرِ |
يمشي فَتَضْرَعُهُ الرِّياحُ فيَنْثَني – متَوَجِّعاً كالطَّائرِ المكسورِ |
ويظلُّ يسأَلُ نفسه متفلسفاً – متَنَطِّساً في خفَّةٍ وغُرورِ |
عمَّا تحجِّبُهُ الكَواكبُ خلفَها – مِنْ سِرِّ هذا العالَم المستورِ |
وهو المهشَّمُ بالعواصفِ يا له – مِنْ ساذجٍ متفلسفٍ مغرور |
وافتحْ فؤادكَ للوجودِ وخَلِّه – لليَمِّ للأَمواجِ للدَّيجور |
للثَّلجِ تنثُرُهُ الزَّوابعُ للأسى – للهَوْلِ للآلامِ للمقدور |
واتركْهُ يقتحِمُ العواصفَ هائماً – في أُفْقِها المتلبِّدِ المقرورِ |
ويخوضُ أَحشاءَ الوُجُود مُغامِراً – في ليلها المتهيِّبِ المحذورِ |
حتَّى تُعانِقَهُ الحَيَاةُ ويرتوي – من ثَغْرِها المتأجِّج المَسْجُورِ |
فتعيشَ في الدُّنيا بقلبٍ زاخرٍ – يقظِ المشاعرِ حالمٍ مسحورِ |
في نشوةٍ صوفيَّةٍ قُدُسيَّةٍ – هي خيرُ مَا في العالِمِ المنظورِ |
أي ناس هذا الورى ما أرى
أَيُّ ناسٍ هذا الوَرَى مَا رأى | إلاَّ برايا شقيَّةً مجنونَة |
جبَّلتْها الحَيَاةُ في ثورة اليأسِ | من الشَّرِّ كيْ تُجِنُّ جُنُونَهْ |
فأَقامتْ لهُ المعابدَ في الكونِ | وصَلَّتْ لهُ وشَادَتْ حُصُونَهْ |
كم فتاةٍ جميلةٍ مدحوها | وتغنَّوْا بها لكيْ يُسْقِطوها |
فإذا صانَتِ الفَضيلَةَ عابوها | وإنْ باعتِ الخَنَا عبدوها |
أَصْبَحَ الحسنُ لعنةً تهبط الأَرضَ | ليَغْوى أَبناؤُها وذووها |
وشقيٍّ طافَ المدينَةَ يستجدي | ليَحْيَا فخيَّبوه احتقارا |
أيقظوا فيهِ نزْعَةَ الشَّرِّ فانْقَضَّ | على النَّاسِ فاتكاً جبَّارا |
يبذُرَ الرُّعبَ في القُلُوبِ ويُذكي | حيثما حلَّ في الجوانحِ نارا |
ونبيٍّ قَدْ جاءَ للنَّاسِ بالحَقِّ | فكالوا لهُ الشَّتائمَ كَيْلا |
وتنادَوْا بهِ إلى النَّارِ فالنَّارُ | بِرُوحِ الخبيثِ أَحْرى وأَوْلى |
ثمَّ ألقوْهُ في اللَّهيبِ وظلُّوا | يَملأون الوُجُودَ رُعباً وهوْلا |
وَشُعوبٍ ضعيفةٍ تتلظَّى | في جحيمِ الآلامِ عاماً فعاما |
والقويُّ الظَّلومُ يَعْصِرُ مِنْ | آلامها السُّودِ لَذَّةً ومُدَاما |
يتحسَّاهُ ضاحكاً لا يراها | خُلِقَتْ في الوُجُودِ طعاما |
وفتاةً حسبتَها معْبَدَ الحبِّ | فأَلفيتَ قلبَها ماخُورا |
ونبيلٍ وجدتَهُ في ضياءِ الفَجْرِ | قلباً مدَبَّساً شرِّيرا |
وزعيمٍ أجلَّهُ النَّاسُ حتَّى | ظنَّ في نفسِهِ إلهاً صغيرا |
وخبيثٍ يعيشُ كالفأسِ هدَّا | ماً ليُعْلي بَيْنَ الخَرابِ بناءهْ |
وقميءٍ يُطاوِلُ الجَبَلَ العالي | فللّه مَا أَشَدَّ غَبَاءهْ |
ودنيءٍ تاريخُهُ في سِجِلِّ | الشَّرِّ إِفْكٌ وقِحَّةٌ ودَنَاءهْ |
كانَ ظنِّي أنَّ النُّفوسَ كبارٌ | فوجدتُ النُّفوس شيئاً حقيرا |
لوَّثَتْهُ الحَيَاةُ ثمَّ استمرَّتْ | تبذُرُ العالَمَ العَريضَ شُرورا |
فاحصدوا الشَّوْكَ يا بنيها وضِجُّوا | وامْلأوا الأَرضَ والسَّماءَ حُبورا |
نحن نمشي وحولنا هاته الأكوان
نحنُ نمشي وحولَنَا هاته الأَكــ | وانُ تمشي لكنْ لأَيَّةِ غايَة |
نحنُ نشدو مع العَصافيرِ للشَّمْــ | سِ وهذا الرَّبيعُ ينفُخُ نَايَهْ |
نحنُ نَتْلو روايَةَ الكونِ للمو | تِ ولكنْ ماذا خِتامُ الرِّواية |
هكذا قلتُ للرِّياحِ فقالتْ | سَلْ ضميرَ الوُجُودِ كيف البدايَة |
وتغشَّى الضَّبابُ نفسي فصاحتْ | في مَلالٍ مُرٍّ إلى أَيْنَ أَمشي |
قلتُ سيري معَ الحَيَاةِ فقالتْ | مَا جنينا تُرى من السَّيْرِ أَمسِ |
فَتَهافَتُّ كالهشيمِ على الأَر | ضِ وناديتُ أَيْنَ يا قلبُ رفشي |
هاتِهِ علَّني أَخُطُّ ضريحي | في سكونِ الدُّجى وأَدفُنُ نفسي |
هاتِهِ فالظَّلامُ حولي كثيفٌ | وضبابُ الأَسى مُنيخٌ عليَّا |
وكؤوسُ الغرامِ أَترعَهَا الفَجْــ | رُ ولكنْ تَحَطَّمَتْ في يدَيَّا |
والشَّبابُ الغرير ولَّى إلى الما | ضي وخلَّى النَّحيبَ في شَفَتَيَّا |
هاتِهِ يا فؤادُ إنَّا غَريبا | نِ نَصُوعُ الحَيَاةَ فنًّا شَجِيَّا |
قَدْ رقصْنا معَ الحَيَاةِ طويلاً | وشدوْنا مع الشَّبابِ سنينا |
وعدَوْنا مع اللَّيالي حُفاةً | في شِعابِ الحَيَاةِ حتَّى دَمينا |
وأكلْنا التُّرابَ حتَّى مَلِلْنا | وشَربْنا الدُّموعَ حتَّى رَوِينا |
ونَثَرْنا الأَحْلامَ والحبَّ والآلا | مَ واليأسَ والأَسى حيثُ شِينا |
ثمَّ ماذا هذا أنا صرتُ في الدُّن | يا بعيداً عن لهوِها وغِنَاها |
في ظلامِ الفَنَاءِ أَدفُنُ أَيَّا | مي ولا أستطيعُ حتَّى بكاها |
وزهورُ الحياة تهوي بِصَمْتٍ | محزنٍ مُضْجِرٍ على قدميَّا |
جَفَّ سِحْرُ الحَيَاةِ يا قلبيَ البــا | كي فهيَّا نُجَرِّبُ الموتَ هيَّا |