رَأَيتُ عَلى لَوحِ الخَيالِ يَتيمَةً | قَضى يَومَ لوسيتانيا أَبَواها |
فَيا لَكَ مِن حاكٍ أَمينٍ مُصَدَّقٍ | وَإِن هاجَ لِلنَفسِ البُكا وَشَجاها |
فَواهاً عَلَيها ذاقَتِ اليُتمَ طِفلَةً | وَقُوِّضَ رُكناها وَذَلَّ صِباها |
وَلَيتَ الَّذي قاسَت مِنَ المَوتِ ساعَةً | كَما راحَ يَطوي الوالِدَينِ طَواها |
كَفَرخٍ رَمى الرامي أَباهُ فَغالَهُ | فَقامَت إِلَيهِ أُمُّهُ فَرَماها |
فَلا أَبَ يَستَذري بِظِلِّ جَناحِهِ | وَلا أُمَّ يَبغي ظِلَّها وَذَراها |
وَدَبّابَةٍ تَحتَ العُبابِ بِمَكمَنٍ | أَمينٍ تَرى الساري وَلَيسَ يَراها |
هِيَ الحوتُ أَو في الحوتِ مِنها مَشابِهٌ | فَلَو كانَ فولاذاً لَكانَ أَخاها |
أَبَثُّ لِأَصحابِ السَفينِ غَوائِلاً | وَأَلأَمُ ناباً حينَ تَفغَرُ فاها |
خَئونٌ إِذا غاصَت غَدورٌ إِذا طَفَت | مُلَعَّنَةٌ في سَبحِها وَسُراها |
تُبَيِّتُ سُفنَ الأَبرِياءِ مِنَ الوَغى | وَتَجني عَلى مَن لا يَخوضُ رَحاها |
فَلَو أَدرَكَت تابوتُ موسى لَسَلَّطَت | عَلَيهِ زُباناها وَحَرَّ حُماها |
وَلَو لَم تُغَيَّب فُلكُ نوحٍ وَتَحتَجِب | لَما أَمِنَت مَقذوفَها وَلَظاها |
فَلا كانَ بانيها وَلا كانَ رَكبُها | وَلا كانَ بَحرٌ ضَمَّها وَحَواها |
وَأُفٍّ عَلى العِلمِ الَّذي تَدَّعونَهُ | إِذا كانَ في عِلمِ النُفوسِ رَداها |
شعر احمد شوقي
أبيات شعر مختارة لأمير الشعراء الشاعر المصري الكبير أحمد شوقي.
عرضوا الأمان على الخواطر
عَرَضوا الأَمانَ عَلى الخَواطِر | وَاِستَعرَضوا السُمرَ الخَواطِر |
فَوَقَفتُ في حَذَرٍ وَيَأبى | القَلبُ إِلّا أَن يُخاطِر |
يا قَلبُ شَأنَكَ وَالهَوى | هَذي الغُصونُ وَأَنتَ طائِر |
إِنَّ الَتي صادَتكَ تَسعى | بِالقُلوبِ لَها النَواظِر |
يا ثَغرَها أَمسَيتُ كَال | غَوّاصِ أَحلُمُ بِالجَواهِر |
يا لَحظَها مَن أُمُّها | أَو مَن أَبوها في الجَآذِر |
يا شَعرَها لا تَسعَ في | هَتكي فَشَأنُ اللَيلِ ساتِر |
يا قَدَّها حَتّامَ تَغدو | عاذِلاً وَتَروحُ جائِر |
وَبِأَيِّ ذَنبٍ قَد طَعَنتَ | حَشايَ يا قَدَّ الكَبائِر |
عفيف الجهر والهمس
عَفيفُ الجَهرِ وَالهَمسِ | قَضى الواجِبَ بِالأَمسِ |
وَلَم يَعرِض لِذي حَقٍّ | بِنُقصانٍ وَلا بَخسِ |
وَعِندَ الناسِ مَجهولٌ | وَفي أَلسُنِهِم مَنسي |
وَفيهِ رِقَّةُ القَلبِ | لِآلامِ بَني الجِنسِ |
فَلا يَغبِطُ ذا نُعمى | وَيَرثي لِأَخي البُؤسِ |
وَلِلمَحرومِ وَالعافي | حَوالَي زادِهِ كُرسي |
وَما نَمَّ وَلا هَمَّ | بِبَعضِ الكَيدِ وَالدَسِّ |
يَنامُ اللَيلَ مَسروراً | قَليلَ الهَمِّ وَالهَجسِ |
وَيُصبِحُ لا غُبارَ عَلى | سَريرَتِهِ كَما يُمسي |
فَيا أَسعَدَ مَن يَمشي | عَلى الأَرضِ مِنَ الإِنسِ |
وَمَن طَهَّرَهُ اللَهُ | مِنَ الريبَةِ وَالرِجسِ |
أَنِل قَدرِيَ تَشريفاً | وَهَب لي قُربَكَ القُدسي |
عَسى نَفسُكَ أَن تُدمَجَ | في أَحلامِها نَفسي |
فَأَلقى بَعضَ ما تَلقى | مِنَ الغِبطَةِ وَالأُنسِ |
حكاية الكلب مع الحمامة
حِكايَةُ الكَلبِ مَعَ الحَمامَة | تَشهَدُ لِلجِنسَينِ بِالكَرامَة |
يُقالُ كانَ الكَلبُ ذاتَ يَومِ | بَينَ الرِياضِ غارِقاً في النَومِ |
فَجاءَ مِن وَرائِهِ الثُعبانُ | مُنتَفِخاً كَأَنَّهُ الشَيطانُ |
وَهَمَّ أَن يَغدِرَ بِالأَمينِ | فَرَقَّتِ الوَرقاءُ لِلمِسكينِ |
وَنَزَلَت توّاً تُغيثُ الكَلبا | وَنَقَرَتهُ نَقرَةً فَهَبّا |
فَحَمَدَ اللَهَ عَلى السَلامَة | وَحَفِظَ الجَميلَ لِلحَمامَة |
إِذ مَرَّ ما مَرَّ مِنَ الزَمانِ | ثُمَّ أَتى المالِكُ لِلبُستانِ |
فَسَبَقَ الكَلبُ لِتِلكَ الشَجَرَة | لِيُنذِرَ الطَيرَ كَما قَد أَنذَرَه |
وَاِتَّخَذَ النَبحَ لَهُ عَلامَة | فَفَهِمَت حَديثَهُ الحَمامَة |
وَأَقلَعَت في الحالِ لِلخَلاصِ | فَسَلِمَت مِن طائِرِ الرَصاصِ |
هَذا هُوَ المَعروفُ يَا أَهلَ الفِطَن | الناسُ بِالناسِ وَمَن يُعِن يُعَن |
عصفورتان في الحجاز
عُصفورَتانِ في الحِجازِ | حَلَّتا عَلى فَنَن |
في خامِلٍ مِنَ الرِياضِ | لا نَدٍ وَلا حَسَن |
بَيناهُما تَنتَجِيانِ | سَحَراً عَلى الغُصُن |
مَرَّ عَلى أَيكِهِما | ريحٌ سَرى مِنَ اليَمَن |
حَيّا وَقالَ دُرَّتانِ | في وِعاءٍ مُمتَهَن |
لَقَد رَأَيتُ حَولَ صَنعاءَ | وَفي ظِلِّ عَدَن |
خَمائِلاً كَأَنَّها | بَقِيَّةٌ مِن ذي يَزَن |
الحَبُّ فيها سُكَّرٌ | وَالماءُ شُهدٌ وَلَبَن |
لَم يَرَها الطَيرُ وَلَم | يَسمَع بِها إِلّا اِفتَتَن |
هَيّا اِركَباني نَأتِها | في ساعَةٍ مِنَ الزَمَن |
قالَت لَهُ إِحداهُما | وَالطَيرُ مِنهُنَّ الفَطِن |
يا ريحُ أَنتَ اِبنُ السَبيلِ | ما عَرَفتَ ما السَكَن |
هَب جَنَّةَ الخُلدِ اليَمَن | لا شَيءَ يَعدِلُ الوَطَن |
أريد سلوكم والقلب يأبى
أَريدُ سُلُوَّكُم وَالقَلبُ يَأبى – وَأَعتِبُكُم وَمِلءُ النَفسِ عُتبى |
وَأَهجُرُكُم فَيَهجُرُني رُقادي – وَيُضويني الظَلامُ أَسىً وَكَربا |
وَأَذكُرُكُم بِرُؤيَةِ كُلِّ حُسنٍ – فَيَصبو ناظِري وَالقَلبُ أَصبى |
وَأَشكو مِن عَذابي في هَواكُم – وَأَجزيكُم عَنِ التَعذيبِ حُبّا |
وَأَعلَمُ أَنَّ دَأبَكُمُ جَفائي – فَما بالي جَعَلتُ الحُبَّ دَأبا |
وَرُبَّ مُعاتَبٍ كَالعَيشِ يُشكى – وَمِلءُ النَفسِ مِنهُ هَوىً وَعُتبى |
أَتَجزيني عَنِ الزُلفى نِفاراً – عَتَبتكَ بِالهَوى وَكَفاكَ عَتبا |
فَكُلُّ مَلاحَةٍ في الناسِ ذَنبٌ – إِذا عُدَّ النِفارُ عَلَيكَ ذَنبا |
أَخَذتُ هَواكَ عَن عَيني وَقَلبي – فَعَيني قَد دَعَت وَالقَلبُ لَبّى |
وَأَنتَ مِنَ المَحاسِنِ في مِثالٍ – فَدَيتُكَ قالَباً فيهِ وَقَلبا |
أُحِبُّكَ حينَ تَثني الجيدَ تيهاً – وَأَخشى أَن يَصيرَ التيهُ دَأبا |
وَقالوا في البَديلِ رِضاً وَرَوحٌ – لَقَد رُمتُ البَديلَ فَرُمتُ صَعبا |
وَراجَعتُ الرَشادَ عَسايَ أَسلو – فَما بالي مَعَ السُلوانِ أَصبى |
إِذا ما الكَأسُ لَم تُذهِب هُمومي – فَقَد تَبَّت يَدُ الساقي وَتَبّا |
عَلى أَنّي أَعَفُّ مَنِ اِحتَساها – وَأَكرَمُ مِن عَذارى الدَيرِ شربا |
وَلي نَفسٌ أُرَوّيها فَتَزكو – كَزَهرِ الوَردِ نَدَّوهُ فَهَبّا |