ضُعْفُ العزيمَةِ لَحْدٌ في سَكينَتِهِ | تقضي الحَيَاةُ بَنَاهُ اليأسُ والوجلُ |
وفي العَزيمَةِ قُوَّاتٌ مُسَخَّرَةٌ | يَخِرُّ دونَ مَدَاها الشَّامِخُ الجَبَلُ |
والنَّاسُ شَخْصانِ ذا يَسْعى بهِ قدَمٌ | من القُنُوطِ وذا يَسْعَى بهِ الأَمَلُ |
هذا إلى الموتِ والأَجداثُ ساخِرةٌ | وذا إلى المجدِ والدُّنيا لَهُ خَوَلُ |
مَا كلُّ فِعْلٍ يُجِلُّ النَّاسُ فاعِلَهُ | مَجْداً فإنَّ الوَرَى بي رأْيِهِمْ خَطَلُ |
ففي التَماجُدِ تَمْويهٌ وشَعْوَذَةٌ | وفي الحقيقَةِ مَا لا يُدْرِكُ الدَّجِلُ |
مَا المَجْدِ إلاَّ ابْتِساماتٌ يَفيضُ بها | فمُ الزمَّان إِذا مَا انسدَّتِ الحِيَلُ |
وليسَ بالمجدِ مَا تَشْقَى الحَيَاةُ بهِ | فَيَحْسُدُ اليَوْمَ أَمْساً ضَمَّهُ الأَزَلُ |
فما الحُرُوبُ سِوَى وَحْشيَّةٍ نَهَضَتْ | في أَنْفُسِ النَّاسِ فانْقادَتْ لها الدُّوَلُ |
وأَيْقَظَتْ في قُلوبِ النَّاسِ عاصِفَةً | غامَ الوُجودُ لها وارْبَدَّتِ السُّبُلُ |
فالدَّهْرُ مُنْتَعِلٌ بالنَّارِ مُلْتَحِفٌ | بالهوْلِ والويلِ والأَيامُ تَشْتَعِلُ |
والأَرضُ داميةٌ بالإِثْمِ طامِيَةٌ | ومارِدُ الشَّرِّ في أَرْجائِها ثَمِلُ |
والموتُ كالمَارِدِ الجبَّارِ مُنْتَصِبٌ | في الأَرضِ يَخْطُفُ من قَدْ خانَهُ الأَجَلُ |
وفي المَهَامِهِ أَشلاءٌ مُمَزَّقَةٌ | تَتْلو على القَفْرِ شِعْراً لَيْسَ يُنْتَحَلُ |
شاعر تونس
هو الشاعرالكبير أبو القاسم الشابي ويلقب كذلك بشاعر الخضراء.
ينقضي العيش بين شوق ويأس
ينقَضي العَيْشُ بَيْنَ شَوْقٍ ويأْسِ – والمُنَى بَيْنَ لَوْعَةٍ وتَأَسِّ |
هذِهِ سُنَّةُ الحَيَاةِ ونَفْسي – لا تَوَدُّ الرَّحيقَ في كأسِ رِجْسِ |
مُلِئَ الدَّهْرُ بالخداعِ فكمْ قَدْ – ضَلَّلَ النَّاسَ مِنْ لإمامٍ وقسِّ |
كلَّما أَسأَلُ الحَيَاةَ عن الحقِّ – تَكُفُّ الحَيَاةُ عن كلِّ هَمْسِ |
لمْ أجدْ في الحَيَاةِ لحناً بديعاً – يَسْتَبيني سِوى سَكينَةِ نَفْسي |
فَسَئِمْتُ الحياةَ إلاَّ غِراراً – تتلاشى بهِ أَناشيدُ يَأْسي |
ناولتني الحَيَاةُ كأساً دِهاقاً – بالأَماني فما تناولْتُ كأْسي |
وسَقَتْني من التَّعاسَةِ أَكْواباً – تَجَرَّعْتُها فيَا شدَّ تَعْسي |
إنَّ في روضَةِ الحَيَاةِ لأَشْواكاً – بها مُزِّقَتْ زَنابِقُ نفسي |
ضاعَ أَمسي وأَينَ منِّي أَمسي – وقَضَى الدَّهْرُ أَنْ أَعيشَ بيَأْسي |
وقَضَى الحبُّ في سُكونٍ مُريعٍ – ساعَةَ الموتِ بَيْنَ سُخْطٍ وبُؤْسِ |
لمْ تُخَلِّفْ ليَ الحَيَاةُ من الأَمسِ – سِوى لوعَةٍ تَهُبُّ وتُرْسي |
تَتَهادَى مَا بَيْنَ غَصَّاتِ قلبي – بسُكُونٍ وبينَ أَوجاعِ نَفْسي |
كَخيالٍ من عالَمِ الموتِ يَنْسابُ – بصَمْتٍ مَا بَيْنَ رَمْسٍ وَرَمْسِ |
تِلْكَ أَوجاعُ مهجةٍ عَذَّبتها – في جحيمِ الحَيَاةِ أَطْيَافُ نَحْسِ |
أراك فتحلو لدي الحياة
أَراكِ فَتَحْلو لَدَيَّ الحَيَاةُ – ويملأُ نَفسي صَبَاحُ الأَملْ |
وتنمو بصدري وُرودٌ عِذابٌ – وتحنو على قلبيَ المشْتَعِلْ |
ويفْتِنُني فيكِ فيضُ الحَيَاةِ – وذاك الشَّبابُ الوديعُ الثَّمِلْ |
ويفْتِنُني سِحْرُ تِلْكَ الشِّفاهْ – ترفرفُ مِنْ حَوْلهنَّ القُبَلْ |
فأَعبُدُ فيكِ جمالَ السَّماءِ – ورقَّةَ وردِ الرَّبيعِ الخضِلْ |
وطُهْرَ الثُّلوجِ وسِحْرَ المروج – مُوَشَّحَةً بشُعاعِ الطَّفَلْ |
أَراكِ فأُخْلَقُ خلْقاً جديداً – كأنِّيَ لمْ أَبْلُ حربَ الوُجُودْ |
ولم أَحتمل فيه عِبئاً ثقيلاً – من الذِّكْرَياتِ التي لا تَبيدْ |
وأَضغاثِ أَيَّاميَ الغابراتِ – وفيها الشَّقيُّ وفيها السَّعيدْ |
ويغْمُرُ روحِي ضِياءٌ رَفيقٌ – تُكلِّلهُ رائعاتُ الورودْ |
وتُسْمِعُني هاتِهِ الكائِناتُ – رقيقَ الأَغاني وحُلْوَ النَّشيدْ |
وتَرْقُصُ حَولي أَمانٍ طِرابٌ – وأَفراحُ عُمْرٍ خَلِيٍّ سَعيدْ |
أَراكِ فتخفُقُ أَعصابُ قلبي – وتهتزُّ مِثْلَ اهتزازِ الوَتَرْ |
ويُجري عليها الهَوَى في حُنُوٍّ – أَناملَ لُدْناً كرَطْبِ الزَّهَرْ |
فتخطو أَناشيدُ قلبيَ سَكْرى – تغرِّدُ تَحْتَ ظِلالِ القَمَرْ |
وتملأُني نشوةٌ لا تُحَدُّ – كأَنِّيَ أَصبحتُ فوقَ البَشَرْ |
أَودُّ بروحي عِناقَ الوُجُودِ – بما فيهِ مِنْ أَنْفُسٍ أَو شَجَرْ |
وليلٍ يفرُّ وفجرٍ يكرُّ – وغَيْمٍ يوَشِّي رداءَ السِّحَرْ |
لله ما أحلى الطفولة
لله مَا أَحْلى الطُّفولَةَ – إنَّها حلمُ الحياةْ |
عهدٌ كَمَعْسولِ الرُّؤَى – مَا بينَ أجنحَةِ السُّبَاتْ |
ترنو إلى الدُّنيا – ومَا فيها بعينٍ باسِمَهْ |
وتَسيرُ في عَدَواتِ وَادِيها – بنَفْسٍ حَالمهْ |
إنَّ الطّفولةَ تهتَزُّ – في قَلْبِ الرَّبيعْ |
ريَّانةٌ مِنْ رَيِّقِ الأَنْداءِ – في الفَجْرِ الوَديعْ |
غنَّت لها الدُّنيا – أَغاني حبها وحُبُورِهَا |
فَتَأَوَّدَتْ نَشوى بأَحلامِ – الحَياةِ وَنُورِهَا |
إنَّ الطُّفولَةَ حِقْبَةً – شعريَّةٌ بشُعُورِها |
وَدُمُوعِها وسُرُورِها – وَطُمُوحِهَا وغُرُورِها |
لمْ تمشِ في دنيا الكآبَةِ – والتَّعاسَةِ والعَذابْ |
فترى على أضوائِها مَا في – الحَقيقَةِ مِنْ كِذَابْ |
اسكني يا جراح
اسْكُني يا جِراحْ – واسْكُتي يا شجُونْ |
ماتَ عَهْدُ النُّواحْ – وزَمَانُ الجُنُونْ |
وأَطَلَّ الصَّبَاحْ – مِنْ وراءِ القُرُونْ |
في فِجاجِ الرَّدى – قَدْ دفنتُ الأَلمْ |
ونثرتُ الدُّموعْ – لرِيَاحِ العَدَمْ |
واتَّخذتُ الحَيَاةْ – معزفاً للنَّغَمْ |
أَتغنَّى عليهْ – في رِحابِ الزَّمانْ |
وأَذبتُ الأَسَى – في جمالِ الوُجُودْ |
ودَحَوْتُ الفؤادْ – واحةً للنَّشيدْ |
والضِّيا والظِّلالْ – والشَّذَى والورودْ |
والهوى والشَّبابْ – والمنى والحَنانْ |
اسكُني يا جراحْ – واسكُتي يا شُجونْ |
ماتَ عَهْدُ النُّواحْ – وزَمَانُ الجُنُونْ |
وأَطَلَّ الصَّبَاحْ – مِنْ وراءِ القُرُونْ |
في فؤادي الرَّحيبْ – مَعْبَدٌ للجَمَالْ |
شيَّدتْهُ الحَيَاةْ – بالرُّؤى والخَيالْ |
فَتَلَوْتُ الصَّلاةْ – في خشوعِ الظِّلالْ |
وحَرَقْتُ البُخُورْ – وأَضَأْتُ الشُّمُوعْ |
إنَّ سِحْرَ الحَيَاةْ – خَالدٌ لا يزولْ |
فَعَلامَ الشَّكَاةْ – مِنْ ظَلامٍ يَحُولْ |
ثمَّ يأتي الصَّباحْ – وتَمُرُّ الفُصُولْ |
سوف يأتي رَبيعْ – إن تقضَّى رَبيعْ |
اسكُني يا جراحْ – واسكُتي يا شُجونْ |
ماتَ عَهْدُ النُّواحْ – وزَمَانُ الجُنُونْ |
وأَطَلَّ الصَّبَاحْ – مِنْ وراءِ القُرُونْ |
مِنْ وراءِ الظَّلامْ – وهديرِ المياهْ |
قَدْ دعاني الصَّباحْ – ورَبيعُ الحَيَاهْ |
يا لهُ مِنْ دُعاءْ – هزَّ قلبي صَداهْ |
لمْ يَعُدْ لي بقاءْ – فَوْقَ هذي البقاعْ |
الْوَداعَ الوَداعْ – يا جِبَالَ الهُمومْ |
يا ضَبابَ الأَسى – يا فِجاجَ الجحيمْ |
قَدْ جرى زَوْرَقي – في الخِضَّمِ العَظيمْ |
ونشرتُ القلاعْ – فالوَداعْ الوداعْ |
يا قوم عيني شامت
يا قَوْمُ عَيْنَيّ شامَتْ – للجَهْلِ في الجوِّ نارا |
تَتْلو سَحاباً رُكاماً – يَتْلو قَتاماً مُثارا |
يُثيرُ في الأرضِ ريحاً – يُهيجُ فيها غُبارا |
تُلْفي الشَّديدَ صَريعاً – تُبْقي الأديبَ حِمارا |
مِنها الفَضاءُ ظَلامٌ – والنَّاسُ منْها سُكارى |
قَدْ أوْرَثَتْهُمْ دُواراً – وأعْقَبَتْهُمْ خُمارا |
لا يَعْرِفُ المَرْءُ مِنها – لَيْلاً رأى أمْ نَهارا |
يَخالُ كُلَّ خَيالٍ – سَرَى تَسَرْبَلَ فارا |
يا قَوْمُ سِرتُمْ حَثيثاً – خُطًى وَرَاءً كِبارا |
نَبَذْتُمُ العِلْمَ نَبْذَ ال – نَّوى قِلًى وصَغارا |
لَبِسْتُم الجَهْلَ ثَوْباً – تَخَذْتُموهُ شِعارا |
يا قَوْمُ مَا لي أراكُمْ – قَطَنْتُمُ الجَهْلَ دارا |
أضَعْتُمُ مَجْدَ قَوْمٍ – شادوا الحَياةَ فَخارا |
أبْقوا سَماءَ المَعالي – بِما أضاءوا مَنارا |
حاكوا لَكُمْ ثَوْبَ عِزٍّ – خَلَعْتُموهُ احتِقارا |
ثمَّ ارتديتم – لَبوسَ خِزيٍ وعارا |
يا لَيْتَ قَوْمي أصاخوا – لِما أقولُ جِهارا |
يا شِعْرُ أسْمَعْتَ لكِنْ – قَوْمي أراهُمْ سُكارى |
فلا تُبالِ إِذا مَا – أعْطوا نِداكَ ازْوِرارا |
واصبِرْ على مَا تُلاقي – واصْدَعْ وُقيتَ العِثارا |