كل قلب حمل الخسف وما

كلُّ قلبٍ حملَ الخسفَ، وماملَّ من ذلِّ الحياة ِ الأرْذلِ
كُلُّ شَعْبٍ قَدْ طَغَتْ فِيهِ الدِّمَادونَ أن يثْأَرَ للحقّ الجلي
خَلِّهِ لِلْمَوْتِ يَطْوِيهِ فَمَاحظُّه غيرُ الفَناء الأنكلِ
أبيات شاعر تونس أبو القاسم الشابي

ما قدَّسَ المَثلَ الأعلى وجمَّلَه

ما قدَّسَ المَثلَ الأعلى وجمَّلَه في أعيُنِ النّاسِ إلاّ أنّه حُلُمُ!
ولو مشى فيهم حيّاً لحطَّمه قومٌ، وقالوا بخبثٍ: «إنّهُ صنَمُ»!
لا يعبدُ النَّاسُ إلا كلَّ منعدمٍ مُمنَّعٍ، ولمنْ حابَاهُمُ العَدَمُ!
حتَّى العَبَاقرة ُ الأفذاذُ، حُبُّهُمُ يلقى الشقاءَ وتَلقَى مجدَها الرِّمَمُ!
النَّاسُ لا يُنْصِفُونَ الحيّ بينهمُ حتّى إذا ما توارى عنهمُ نَدِموا!
الويْل للنَّاسِ من أَهْوائهمْ أبداً يمشي الزَّمانُ وريحُ الشَّرِّ تحتدمُ..

بيت بنته لي الحياة من الشذى

بيْتٌ، بَنَتْه ليَ الحياة ُ من الشذَى والظلّ، والأَضْواءِ، والأنغامِ
بيتٌ، من السِّحرِ الجميلِ، مشَيَدٌللحبِّ، والأحلامِ، والالهامِ
في الغابِ سِحْرٌ، رائعٌ متجدِّدٌباقٍ على الأَيامِ والأعْوامِ
وشذًى كأجنحة الملائكِ، غامضٌسَاهٍ يُرفرف في سُكونٍ سَامِ
وجداولٌ، تشْدو بمعسول الغِناوتسيرُ حالمة ً، بغيرِ نِظَامِ
ومخارفٌ نَسَجَ الزمانُ بساطَهامن يابسِ الأوراقِ والأكمامِ
وَحَنَا عليها الدّوّحُ، في جَبَرُوتِهِبالظلِّ، والأغصان والنسام
في الغاب، في تلك المخارف، والرُّبى وعلى التِّلاع الخُضرِ، والآجامِ
كم من مشاعرِ، حلْة ٍ، مجْهولة ٍسَكْرَى ، ومِنْ فِكَرٍ، ومن أوهامِ
غَنَّتْ كأسرابِ الطُّيورِ، ورفرفتحولي، وذابتْ كالدّخان، أمامي
ولَكَمْ أَصَخْتُ إلى أناشيد الأسىوتنهُّدِ الآلام والأسقامِ
وإلى الرياحِ النائحاتِ كأنّهافي الغاب تبكي ميِّت الأيَّامِ
وإلَى الشبابِ، مُغَنَّياً، مُتَرَنِّماًحوْلي بألحان الغَرامِ الظَّامي
وسمعتُ للطير، المغرِّد في الفضاوالسِّنديانِ، الشامخ، المتَسامي
وإلى أناشيد الرّعاة ِ، مُرِفَّة ًفي الغاب، شَادية ً كسِرْبِ يَمامِ
وإلى الصّدى ، المِمراح، يهتفُ راقصاًبين الفِجَاجِ الفيحِ والآكامِ
حتى غَدَا قلبي كنَايٍ، مُت}رَعثَمِلٍ من الألحان والنغامِ
فَشَدَوْتُ باللَّحنِ الغَريب مجنَّحاًبكآبة ِ الأحلامِ والآلامِ
في الغاب، دنيا للخيال، وللرُّؤى والشِّعرِ، والتفكيرِ، والأحلامِ
لله يومَ مضيتُ أوّلَ مرّة ٍللغابِ، أرزحُ تحت عبءِ سَقامي
ودخَلتُه وحدي، وحوْلي موكبٌهَزِجٌ، من الأحلامِ والأوهامِ
ومشيْتُ تحت ظِلاله مُتَهَيِّباًكالطفل، في صضمتٍ، وفي استسلامِ
أرنو إلى الأّدْوَاحِ، في جبروتهافإخَالُها عَمَدَ السَّماءِ، أمامي
قَد مسَّها سِحْرُ الحياة ، فأوْرَقَتْوتَمَايَلَتْ في جَنَّة ِ الأحلامِ
وأُصِيخُ للصّمتِ المفكّر، هاتِفاًفي مِسْمعي بغرائب الأنغامِ
فإذا أنا في نَشْوَة ٍ شعرّية ٍفَيَّاضة ٍ بالوحي والإلهامِ
ومشاعري في يقظة ٍ مسحورة ٍ…….
وَسْنَى كيقظة ِ آدَمٍ لمَّا سَرَىفي جسمه، رُوحُ الحياة ِ النّامي
وشَجَتْه مْوسيقى الوجودِ، وعانــقتُ أحلامَهُ، في رِقّة ٍ وسلامِ
ورأى الفَراديسَ، الأَنيقة َ، تنثنيفي مُتْرَفِ الأزهار والكمامِ
ورأى الملائكَ، كالأشعَّة في الفَضَاتنسابُ سابحة ً، بغير نظامِ
وأحسّ رُوحَ الكون تخفقُ حولهفي الظِّلِّ، والأضواءِ، والأنسامِ
والكائناتِ، تحوطُهُ بِحَنَانهاوبحبِّها، الرَّحْبِ، العميقِ، الطَّامي
حتى تملأَ بالحياة كِانُهوسَعى وراءَ مواكبِ الأيامِ
ولَرُبَّ صُبْحٍ غائمٍ، مُتَحجِّبٍفي كِلَّة ٍ من زَعْزَعٍ وغَمامِ
تتنفَّسُ الدُّنيا ضَباباً، هائماًمُتدفِّعاً في أفْقه المُترامي
والرِّيحُ تخفقُ في الفضاءِ، وفي الثَّرىوعلى الجبال الشُّمِّ، والآكام
باكَرْتُ فيه الغابَ، مَوْهُونَ القُوى َمتخاذِلَ الخُطُواتِ والأَقدامِ
وجلستُ تحتَ السّنديانة ِ، واجماًأرنو إلى الأفُق الكئيب، أمامي
فأرى المبانيَ في الضباب، كأنهافِكْرٌ، بأرضِ الشَّكِّ والإبهامِ
أو عَالَمٌ، ما زال يولَدُ في فضاالكونِ، بين غياهبٍ وسِدامِ
وأرى الفجاجَ الدامساتِ، خلالَهومشاهدَ الوديان والآجامَ
فكأنها شُعَبُ الجحيم،رهيبة ُملفوفَة في غُبشة ٍ وظَلامِ
صُوَرٌ، من الفنِّ المُرَوِّعِ، أعجزتوَحْيَ القريضِ وريشة َ الرسّامِ
وَلَكَمْ مَسَاءٍ، حَالمٍ متوَشِّحٍبالظّلِ، والضّوءِ الحزين الدامي
قدْ سِرْتُ في غابي، كَفِكرٍ، هَائمٍفي نشوة ِ الأحلام والإلهامِ
شَعَري، وأفكاري، وكُلُّ مشاعريمنشورة ٌ للنُّور والأنسام
والأفق يزخَرُ بالأشعَّة ِ والشَّذَىوالأرضُ بِالأعشابِ والأكمامِ
والغابُ ساجٍ، والحياة ُ مصيخة ٌوالأفقُ، والشفقُ الجميلُ، أمامي
وعروسُ أحلامي تُداعبُ عُودَهافيَرنُّ قلبي بالصَّدَى وعِظامي
روحٌ أنا، مَسْحُورة ٌ، في عَالمٍفوق الزمان الزّاخر الدَّوَّامِ
في الغابِ، في الغابِ الحبيبِ، وإنَّهحَرَمُ الطَّبيعة ِ والجمالِ السَّامي
طَهَّرْتُ فينار الجمال مشاعِريولقِيتُ في دنيا الخيال سَلامي
ونسيتُ دنيا النّاس، فهي سخافة ٌسَكْرَى من الأَوهامِ والآثامِ
وَقَبسْتُ من عَطْفِ الوجود وحُبِّهوجمالهِ قبساً، أضاءَ ظلامي
فرأيتُ ألوانَ الحياة ِ نضيرة ًكنضارة ِ الزّهرِ الجميلِ النّامي
ووجدتُ سحْرَ الكون أسمى عنصراًوأجلَّ من حزني ومن آلامي
فأهَبْتُ ـ مسحورَ المشاعر، حالماًنشوانَ ـ بالقلب الكئيب الدّامي
المعبدُ الحيُّ المقدَّسُ هاهنا‍يا كاهنَ الأحزان والآلامِ
فاخلعْ مُسُوحَ الحزنِ تحت ظِلالِهِوالبسْ رِدَاءَ الشِّعرِ والأَحلام
وارفعْ صَلاَتكَ للجمالِ، عَميقة ًمشبوبة ً بحرارة الإلهامِ
واصدحْ بألحان الحياة ، جميلة ًكجمال هذا العالم البسَّامِ
واخفقْ مع العِطْر المرفرفِ في الفضاوارقصْ مع الأضواء والأنسامِ
ومعَ الينابيعِ الطليقة ِ، والصَّدَى……
وَذَرَوْتُ أفكاري الحزِينة َ للدّجىونَثَرْتُها لِعَواصِفِ الأَيَّامِ
ومَضَيْتُ أشدُو للأشعَّة ِ ساحراًمن صوت أحزاني، وبطش سقامي
وهتفتُ: “ياروحَ الجمالِ‍ تدَفَّقِيكالنَّهرِ في فِكرِي، وفي أحْلامي
وتغلغلي كالنّور، في رُوحي التيذَبُلتْ من الأحزان والآلامِ
أنتِ الشعورُ الحيُّ يزخرُ دافقاًكالنّار، في روح الوجودِ النَّامي
ويصوغ أحلامَ الطبيعة ِ، فاجعــلي عُمري نشيداً، ساحِرَ الأتغامِ
وشذًى يَضُوعُ مع الأشعَّة ِ والرُّؤىفي معبد الحق الجليل السامي
شاعر الخضراء أبو القاسم الشابي

قضَّيتُ أدْوارَ الحياة ِ، مُفَكِّراً

قضَّيتُ أدْوارَ الحياة ِ، مُفَكِّراً في الكَائِناتِ، مُعَذَّباً، مَهْمُوما
فَوَجَدْتُ أعراسَ الوُجود مآتماً ووجدتُ فِرْدَوسَ الزَّمانِ جَحيمَا
تَدْوي مَخَارِمُهُ بِضَجَّة ِ صَرْصَرٍ، مشبوبَة ٍ، تَذَرُ الجيالُ هشيمَا
وحضرتُ مائدة َ الحياة ، فلم أجدْ إلاّ شراباً، آجناً، مسموماً
وَنَفضْتُ أعماقَ الفَضَاءِ، فَلَمْ أجِدْ إلا سكوناً، مُتْعَباً محمومَا
تتبخَّرُ الأَعْمارُ في جَنَباتِهِ وتموتُ أشواقُ النّفوس وَجومَا
ولمستُ أوتارَ الدهور، فلم تُفِضْ إلا أنيناً، دامياً، مَكْلُوما
يَتْلُو أقاصيصَ التَّعاسة ِ والأسى ويصيرُ أفراح الحياة همومَا
شُرِّدْتُ عنن وَطَنِي السَّماويِّ الذي ما كانَ يوْماً واجمَا، مغمومَا
شُرِّدْتُ عَنْ وطني الجميل.. أنا الشَّقِـ شقيّ، فعشت مشطورَ الفؤاد، يتيمَا..
في غُربة ٍ، رُوحيَّة ٍ، مَلْعُونة ٍ أشواقُها تَقْضِي، عِطاشاً، هِيما…
يا غُربة َ الرُّوحِ المفكِّر‍ إنّه في النَّاسِ يحيا، سَائماً، مَسْؤُوما
شُرِّدتُ لِلدنيا.. وَكُلٌّ تائهٌ فيها يُرَوِّعُ رَاحلاً ومقيما
يدعو الحياة ، فلا يُجيبُ سوى الرَّدى ليدُسَّهُ تَحْتَ التُّرابِ رَميما
وَتَظَلُّ سَائِرة ً، كأنّ فقيدها ما كان يوماً صاحباً وحميمَا‍
يا أيُّها السّاري! لقد طال السُّرى حَتَّام تَرْقُبُ في الظَّلامِ نُجُوما..؟
أتخالُ في الوادي البعيدِ المُرْتَجى ؟ هيهاتَ! لَنْ تَلْقى هناكَ مَرُوما
سرْ ما اسْتَطَعْتَ، فَسَوْفَ تُلقي ـ مثلما خلَّفتَ ـ مَمشُوقَ الغُصونِ حَطِيما

وأوَدُّ أن أحيا بفكرة ِ شاعرٍ

وأوَدُّ أن أحيا بفكرة ِ شاعرٍ فأرى الوجودَ يضيقُ عن أحلامي
إلاّ إذا قَطَّعتُ أسْبابي مَعَ الدُّ نيا وَعِشْتُ لِوَحْدتي وَظَلامي
في الغابِ، في الجبلِ البعيدِ عن الورى حيثُ الطبيعة ُ، والجمالُ السامي
وأعيشُ عيشة َ زاهدٍ مُتَنَسِّكٍ ما إنْ تُدَنِّسه الحَياة ُ بِذَامِ
هجرَ الجماعة َ للجبا، تورُّعاً عنها وعن بَطْشِ الحياة الدَّامي
تمشي حواليه الحياة ُ كأَنَّها الحلمُ الجميل، خفيفة َ الأقدامِ
وتَخَرُّ أمواجُ الزَّمانِ بهَيْبة ٍ قدسيَّة ٍ، في يميِّها المُترامي
فأعيش في غابِ حياة ً، كلّها للفنِّ للأَحلامِ، للإلهامِ
لكِنَّني لا أستطيعُ، فإنَّ لي أمَّا، يصدُّ حنانُها أوهامي
وصغارَ إخوانٍ، يرون سلامهمَ في الكَائناتِ مُعَلَّقاً بسَلامي
فقدوا الأب الحاني، فكنتُ لضعفهم كهفاً، يَصدُّ غوائلَ الأيامِ
وَيَقِيهمُ وَهَجَ الحياة ، وَلَفْحَها ويذودُ عنهم شرّة َ الآلامِ
فأنا المكبَّلُ في سَلاسِلَ، حيَّة ٍ، ضَحَّيْتُ مِنْ رَأَفي بها أحلامي
وأنا الذي سكنَ المدينة َ، مكرهاً ومشى إلى الآتي بِقَلْبٍ دامِ
يُصْغي إلى الدُّنيا السَّخيفة ِ راغماً ويعيشُ مثلَ النَّاسِ بالأَوهامِ
وأنا الذي يحيا يأرض، قفرة ً مدحوَّة ً للشكِّ والآلامِ…
هَجَمَتْ بيَ الدُّنيا على أهوالها وخِضمَّها الرَّحْبِ، العميقِ الطَّامي
من غير إنذَارٍ فَأحْمِلَ عُدَتي وأخوضَهُ كالسَّابحِ العَوَّامِ
فتحطّمتْ نفسي على شُطْآنهِ وتأجّجتْ في جَوِّه آلامي
الويلُ للدّنيا التي في شرعها فأسُ الطَّعام كريشة ِ الرّسّامِ؟

أرى هيكلَ الأيامُ، مشيَّداً

أرى هيكلَ الأيامُ، مشيَّداً ولا بدَّ أنْ يأتي على أُسِّهِ الهَدْمُ
فيصبحَ ما قد شيدَّ الله، والورى خراباً، كأنَّ الكلُّ في أمسهِ وهمُ!
فقل لي: ما جّدوى َ الحياة ِ وكربِها، وتلك التي تزوي، وتلك التي تنمو؟
«وفوْجٍ، تغذِّيه الحياة ُ لِبَانَها، وفوجٍ، يُرى تَحْتَ التُّرابِ لَهُ رَدْمُ؟
وعقلٍ من الأضواء، في رأس نابغ وعقلٍ من الظّلماء، يحملهُ فدمُ؟
وأفئدة حسرَ، تذوب كآبة وأفئدة ٍ، سكرى ، يِرفُّ لها النّجمُ؟
لِتعْسِ الوَرى ، شاءَ الإلهُ وجودَهم فكانَ لَهُمْ جهلٌ، وكانَ لَهُمْ فهمُ!!