| نُجدِّدُ ذِكرَى عهدِكم ونُعيدُ | وندني خيالَ الأمسِ وهوَ بعيدُ |
| وللناسِ في الماضي بصائرُ يَهتدِي | عليهِنَّ غاوٍ، أَو يسيرُ رشيد |
| إذا الميْتُ لم يَكرُمْ بأَرضٍ ثناؤُهُ | تحيَّرَ فيها الحيُّ كيف يسود |
| ونحنُ قضاة ُ الحقِّ، نرعى قديمهُ | وإن لم يفتنا في الحقوقِ جديد |
| ونعلمُ أنَّا في البناءِ دعائمٌ | وأنتم أساسٌ في البناءِ وطيد |
| فريدُ ضحايانا كثيرٌ، وإنما | مَجالُ الضحايا أَنتَ فيه فريد |
| فما خلفَ ما كابدتَ في الحقِّ غاية ٌ | ولا فوقَ ما قاسيْتَ فيه مَزيد |
| تغرَّبْتَ عشراً أَنتَ فيهنَّ بائسٌ | وأنت بآفاقِ البلادِ شريد |
| تجوعُ ببلدانٍ، وتعرى بغيرها | وتَرْزَحُ تحتَ الداءِ، وهُوَ عَتيد |
| ألا في سبيلِ اللهِ والحقِّ طارفٌ | من المالِ لم تبخلْ به، وتليد |
| وَجودُكَ بعدَ المالِ بالنفسِ صابراً | إذا جزعَ المحضورُ وهوَ يجود |
| فلا زِلْتَ تمثالاً من الحقِّ خالصاً | على سرهِ نبني العلا، ونشيد |
| يعلم نشءَ الحي كيف هوى الحمى | وكيف يحامي دونهُ، ويذود |
قصيدة احمد شوقي
مجموعة مميزة لقصائد أمير الشعراء و احد شعراء العصر الحديث أحمد شوقي.
أمن البحر صائغ عبقري
| أَمِنَ البحرِ صائغٌ عَبْقَرِيٌّ | بالرمالِ النواعمِ البيضِ مغرى |
| طاف تحتَ الضُّحَى عليهنَّ، والجوْ | هَرُ في سُوقِه يُباعُ ويُشْرَى |
| جئنهُ في معاصمٍ ونحوٍ | فكسا معصماً، وآخرَ عرى |
| وأبى أن يقلدَ الدرَّ واليا | قوتَ نحراً، وقلَّدَ الماسَ نحْرا |
| وترى خاتماً وراءَ بَنانٍ | وبَناناً من الخواتمِ صِفْرا |
| وسواراً يزينُ زندَ كعابٍ | وسواراً من زندِ حسناءَ فرّا |
| وترى الغِيدَ لُؤلؤاً ثَمَّ رَطْباً | وجماناً حوالي الماءِ نثرا |
| وكأَنَّ السماءَ والماءَ شِقَّا | صدفٍ، حمَّلا رفيفاً ودرَّا |
| وكأَنّ السماءَ والماءَ عُرْسٌ | مترعُ المهرجان لمحاً وعطرا |
| أَو رَبيعٌ من ريشة ِ الفنِّ أَبهَى | مِن ربيع الرُّبى ، وأَفتنُ زَهْرا |
| أو تهاويل شاعرٍ عبقريٍّ | طارحَ البحرَ والطبيعة َ شعرا |
| يا سواريْ فيروزجٍ ولجينٍ | بها حليتْ معاصمُ مصرا |
| في شُعاعِ الضُّحَى يعودان ماساً | وعلى لمحة ِ الأصائلِ تبرا |
| ومَشَتْ فيهما النّجومُ فكانت | في حواشيهما يواقيتَ زهرا |
| لكَ في الأرضِ موكبٌ ليس يألوالـ | ـريحَ والطيرَ والشياطينَ حشرا |
| سرتَ فيه على كنوز سليما | نَ تعدُّ الخُطى اختيالاً وكِبْرا |
| وتَرنَّمْتَ في الركابِ، فقلنا | راهبٌ طاف في الأَناجيل يَقرا |
| هو لحنٌ مضيَّعٌ، لا جواباً | قد عرفنا له، ولا مستقرا |
| لك في طيِّهِ حديثُ غرامٍ | ظلَّ في خاطر الملحنِ سرَّا |
| قد بعثنا تحيَّة ً وثناءً | لكَ يا أرفعَ الزواخر ذكرا |
| وغشيناكَ ساعة ً تنبشُ الما | ضي نبشاً، وتقتلُ الأمسَ فكرا |
| وفتحنا القديمَ فيك كتاباً | وقرأنا الكتابَ سطراً فسطرا |
| ونشرنا من طيهنَّ الليالي | فلَمَحنا من الحضارة ِ فَجْرا |
| ورأَينا مصراً تُعلِّمُ يونا | نَ، ويونانَ تقبِسُ العلمَ مصرا |
| تِلكَ تأْتيكَ بالبيانِ نبيّاً | عبقرياً، وتلك بالفنّ سحرا |
| ورأَينا المنارَ في مطلع النَّجْـ | ـمِ على برقِهِ المُلَمَّحِ يُسرى |
| شاطىء ٌ مثلُ رُقعة ِ الخُلدِ حُسناً | وأديمِ الشبابِ طيباً وبشرا |
| جرَّ فيروزجاً على فضة ِ الما | ءِ، وجرَّ الأصيلُ والصبح تبرا |
| كلما جئتهُ تهلل بشراً | من جميع الجهاتِ، وافترَّ ثغرا |
| انثنى موجة ً، وأقبلَ يرخي | كِلَّة ً تارة ً ويَرفعُ سِترا |
| شبَّ وانحطَّ مثلَ أَسرابِ طيرٍ | ماضياتٍ تلفُّ بالسهلِ وعرا |
| رُبما جاءَ وَهْدَة ً فتردَّى | في المهاوي، وقامَ يطفرُ صخرا |
| وترى الرملَ والقصورَ كأيكٍ | ركب الوكرُ في نواحيهِ وكرا |
| وتَرى جَوْسَقاً يُزَيِّنُ رَوْضاً | وترى رَبوة ً تزيِّنُ مصرا |
| سَيِّدَ الماءِ، كم لنا من صلاحٍ | و عليٍّ وراءَ مائكَ ذِكرى |
| كم مَلأْناكَ بالسَّفينِ مَواقِيـ | ـرَ كشُمِّ الجبالِ جُنداً ووَفرا |
| شاكياتِ السلاحِ يخرجنَ من مصـ | ـرٍ بملومة ٍ، ويدخلن مصرا |
| شارعاتِ الجناحِ في ثَبَجِ الما | ءِ كنسرٍ يشدُّ في السحب نسرا |
| وكأَنّ اللُّجاجَ حينَ تنَزَّى | وتسدُّ الفجاجَ كرَّا وفرَّا |
| أجمٌ بعضُهُ لبعضٍ عدوٌّ | زَحَفَتْ غابة ٌ لتمزيق أُخرَى |
| قذفتْ ههنا زئيراً وناباً | ورَمَت ههنا عُواء وظُفرا |
| أنتَ تغلي إلى القيامة ِ كالقدْ | رِ، فلا حطَّ يومها لكَ قدرا |
قف حي شبان الحمى
| قفْ حيِّ شبانَ الحمى | قبلَ الرحيلِ بقافِيَهْ |
| عودتهمْ أمثالها | في الصالحاتِ الباقيه |
| من كلِّ ذاتِ إشارة ٍ | ليستْ عليهم خافيه |
| قلْ: يا شبابُ نصيحة | مما يُزَوَّدُ غاليه |
| هل راعكم أن المدا | رسَ في الكنانة ِ خاوِيَه |
| هجرتْ فكلٌّ خليَّة | من كلِّ شُهْدٍ خاليه |
| وتعطَّلتْ هالاتُها | منكم، وكانت حاليه |
| غَدَتِ السياسة ُ وَهْيَ آ | مرة عليها ناهيه |
| فهجرتمو الوطنَ العز | يزَ إلى البلادِ القاصيه |
| أنتمْ غداً في عالمٍ | هو والحضارة ُ ناحِيهْ |
| واريتُ فيه شبيبتي | وقضيتُ فيه ثمانِيه |
| ما كنتُ ذا القلبِ الغليـ | ـظِ، ولا الطباعِ الجافيه |
| سيروا به تتعلموا | سرَّ الحياة ِ العاليه |
| وتأملوا البنيانَ، وادَّ | كروا الجهودَ البانيه |
| ذوقوا الثمارَ جنيَّة ً | وردوا المناهلَ صافيه |
| واقضوا الشبابَ، فإنّ ساعته القصيرة فانيه | |
| واللهِ لا حرجٌ عليـ | ـكم في حديثِ الغانيه |
| أَو في اشتِهاءِ السِّحْرِ من | لَحْظِ العيونِ الساجيه |
| أَو في المسارحِ فَهْيَ بالنّـ | ـفسِ اللطيقة ِ راقيه |
فتحية دنيا تدوم وصحة
| فتْحِيَّة ٌ دنيا تدومُ وصِحة ٌ | تَبقى وبهجَة ُ أُمَّة ٍ وحياة |
| مولايّ إنّ الشمسَ في عليائها | أنثى وكلُّ الطيبات بناتُ |
قردٌ رأى الفيلَ على الطريقِ
| قردٌ رأى الفيلَ على الطريقِ | مهرولاً خوفاً من التعويقِ |
| وكان ذاك القِردُ نصفَ أَعمى | يُريد يُحْصِي كلَّ شيءٍ عِلما |
| فقال: أهلا بأبي الأهوالِ | ومرْحباً بِمُخْجِلِ الجِبالِ |
| نقدي الرؤوسُ رأسكَ العظيما | فقف أشاهدْ حسنك الوسيما |
| للهِ ما أظرفَ هذا القدَّا | وألطف العظمَ وأبهى الجلدا! |
| وأَملَح الأذْنَ في الاستِرسالِ | كأَنها دائرة ُ الغِربالِ! |
| وأَحسَنَ الخُرطومَ حين تاهَا | كأَنه النخلة ُ في صِباها! |
| وظَهرُك العالي هو البِساطُ | للنفْسِ في رُكوبِه کنبِساطُ |
| فعدَّها الفيلُ من السعودِ | وأمرَ الشاعرَ بالصُّعود |
| فجالَ في الظهر بلا توانِ | حتى إذا لم يَبقَ من مكان |
| أَوفى على الشيءِ الذي لا يُذكرُ | وأدخلَ الاصبعَ فيه يخبرُ |
| فاتهم الفيلُ البعوضَ، واضطربْ | وضيَّقَ الثقب، وصالَ بالذنبْ |
| فوقَعَ الضربُ على السليمه | فلحِقَتْ بأُختِها الكريمه |
| ونزل البصيرُ ذا اكتئابِ | يشكو إلى الفيلِ من المُصابِ |
| فقال: لا مُوجِب للندامه | الحمد لله على السلامه |
| من كان في عينيْه هذا الداءُ | ففي العَمى لنفسِه وقاءُ |
يَحكون أَن أُمَّة َ الأَرانِبِ
| يَحكون أَن أُمَّة َ الأَرانِبِ | قد أخذت من الثرى بجانبِ |
| وابتَهجَتْ بالوطنِ الكريمِ | ومثلِ العيالِ والحريمِ |
| فاختاره الفيلُ له طريقا | ممزِّقاً أصحابنا تمزيقا |
| وكان فيهم أرنبٌ لبيبُ | أذهبَ جلَّ صوفهِ التَّجريب |
| نادى بهم: يا مَعشرَ الأَرانبِ | من عالِمٍ، وشاعرٍ، وكاتب |
| اتَّحِدوا ضِدَّ العَدُوِّ الجافي | فالاتحادُ قوّة ُ الضِّعاف |
| فأقبلوا مستصوبين رايهْ | وعقدوا للاجتماعِ رايه |
| وانتخبوا من بينِهم ثلاثه | لا هَرَماً راعَوْا، ولا حَداثه |
| بل نظروا إلى كمالِ العقلِ | واعتَبروا في ذاك سِنَّ الفضْل |
| فنهض الأولُ للخطِاب | فقال : إنّ الرأيَ ذا الصواب |
| أن تُتركَ الأرضُ لذي الخرطومِ | كي نستريحَ من أَذى الغَشوم |
| فصاحت الأرانبُ الغوالي : | هذا أضرُّ من أبي الأهوال |
| ووثبَ الثاني فقال: إني | أَعهَدُ في الثعلبِ شيخَ الفنِّ |
| فلندْعُه يُمِدّنا بحِكمتِهْ | ويأخذ اثنيْنِ جزاءَ خدمتِه |
| فقيلَ : لا يا صاحبَ السموِّ | لا يدفعُ العدوُّ بالعدوِّ |
| وانتَدَبَ الثالثُ للكلامِ | فقال : يا معاشرَ الأقوامِ |
| اجتمِعوا؛ فالاجتِماع قوّه | ثم احفِروا على الطريق هُوَّه |
| يهوى إليها الفيلُ في مروره | فنستَريحُ الدهرَ من شرورِه |
| ثم يقولُ الجيلُ بعدَ الجيلِ | قد أَكلَ الأَرنبُ عقلَ الفيل |
| فاستصوبوا مقالهُ ، واستحسنوا | وعملوا من فورهم ، فأحسنوا |
| وهلكَ الفيلُ الرفيعُ الشَّانِ | فأَمستِ الأُمَّة ُ في أَمان |
| وأقبلتْ لصاحبِ التدبير | ساعية ً بالتاجِ والسرير |
| فقال : مهلا يا بني الأوطانِ | إنّ محلِّي للمحلُّ الثاني |
| فصاحبُ الصَّوتِ القويِّ الغالبِ | منْ قد دعا : يا معشرَ الأرانب |