إن تسألي عن مصرَ حواءِ القرى | وقرارة ِ التاريخِ والآثارِ |
فالصُّبحُ في منفٍ وثيبة واضحٌ | مَنْ ذا يُلاقي الصُّبحَ بالإنكار |
بالهَيْلِ مِن مَنْفٍ ومن أَرباضِها | مَجْدُوعُ أَنفٍ في الرّمالِ كُفارِي |
خَلَتِ الدُّهُورُ وما التَقَتْ أَجفانُه | وأتتْ عليه كليلة ٍ ونهار |
ما فَلَّ ساعِدَه الزمانُ، ولم يَنَلْ | منه اختلافُ جَوارِفٍ وذَوار |
كالدَّهرِ لو ملكَ القيامَ لفتكة ٍ | أَو كان غيرَ مُقَلَّمِ الأَظفار |
وثلاثة ٍ شبَّ الزمانُ حيالها | شُمٍّ على مَرّ الزَّمانِ، كِبار |
قامت على النيلِ العَهِيدِ عَهِيدة ً | تكسوه ثوبَ الفخرِ وهيَ عوار |
من كلِّ مركوزٍ كرَضْوَى في الثَّرَى | متطاولٍ في الجوَّ كالإعصار |
الجنُّ في جنباتها مطروة ٌ | ببدائع البنَّاءِ والحفَّار |
والأَرضُ أضْيَعُ حِيلة ً في نَزْعِها | من حيلة ِ المصلوبِ في المسمار |
تلكَ القبورُ أضنَّ من غيب بما | أَخفَتْ منَ الأَعلاق والأَذخار |
نام الملوك بها الدُّهورَ طويلة ً | يجِدون أَروحَ ضَجْعَة ٍ وقرار |
كلُّ كأهلِ الكهف فوقَ سريره | والدهرُ دونَ سَريرِه بهِجَار |
أملاكُ مصرَ القاهرون على الورى | المنزَلون منازلَ الأَقمار |
هَتَكَ الزمان حِجابَهم، وأَزالهم | بعدَ الصِّيانِ إزالة َ الأسرار |
هيهاتَ لم يلمسْ جلالهمو البلى | إلا بأَيدٍ في الرَّغام قِصار |
كانوا وطرفُ الدهر لا يسمو لهم | ما بالهمْ عرضوا على النُّظَّار |
لو أُمهلوا حتى النُّشُورِ بِدُورِهم | قاموا لخالقهم بعير غبار |
قصيدة أحمد شوقي
الرائعة و الكثير من قصائد امير الشعراء الشاعر الكبير احمد شوقي.
أرى شجرا في السماء احتجب
أرى شجراً في السماء احتجبْ | وشقّ العَنانَ بمَرْأَى عَجبْ |
مآذنُ قامت هنا أو هناكَ | ظواهرها درجٌ من شذب |
وليس يؤذِّنُ فيها الرجالُ | ولكن تصبح عليها الغرب |
وباسقة ٍ من بناتِ الرمالِ | نَمتْ ورَبتْ في ظلالِ الكُثُب |
كسارية ِ الفُلْكِ، أَو كالمِسـلَّة ِ | أَو كالفَنارِ وراءَ العَبَب |
تطولُ وتقصرُ خلفَ الكثيبِ | إذا الريحُ جاءَ به أَو ذهب |
تُخالُ إذا اتَّقدَتْ في الضُّحَى | وجرَّ الأصيلُ عليها اللهب |
وطافَ عليها شعاع النهارِ | من الصحوِ، أو منْ حواشي السحب |
وصيفة َ فرعونَ في ساحة ٍ | من القصر واقفة ً ترتقب |
قد اعتصبتْ بفصوص العقيقِ | مُفصَّلة ً بِشُذورِ الذهب |
وناطتْ قلائدَ مَرْجانِها | على الصدر، واتَّشَحَتْ بالقَصَب |
وشَدَّتْ على ساقِها مِئْزَراً | تعقَّدَ من رأسها للذنب |
أهذا هو النخلُ ملكُ الرياضِ | أَميرُ الحقولِ، عروسُ العزب |
طعامُ الفقيرِ، وحَلوَى الغَنيِّ | وزادُ المسافِر والمُغْتَرِب |
فيا نخلة َ الرملِ، لم تبخلي | ولا قصَّرتْ نخلاتُ الترب |
وأعجبُ: كيف طوى ذكركنَّ | ولم يحتفلْ شعراءُ العرب |
أليس حراماً خلوُّ القصائدِ | من وصفكنّ، وعطلُ الكتب |
وأنتنّ في الهاجراتِ الظِّلالُ | كأَنّ أَعالِيَكُنَّ العَبَب |
وأنتنّ في البيد شاة ُ المعيلِ | جناها بجانبِ أخرى حلبَ |
وأنتنّ في عرصاتِ القصورِ | حسانُ الدُّمى الزائناتُ الرّحب |
جناكنّ كالكرمِ شتى المذاقِ | وكالشَّهدِ في كل لون يُحَبّ |
بأرض الجيزة اجتاز الغمام
بأَرضِ الجيزة ِ اجتازَ الغَمامُ | وحلَّ سماءَها البدرُ التمام |
وزار رياضَ إسماعيلَ غيثٌ | كوالدِه له المِنَنُ الجِسام |
ثَنَى عِطْفَيْهِمَا الهرمانِ تِيهاً | وقال الثالثُ الأَدنى : سلام |
حلُمِّي مَنْفُ؛ هذا تاجُ خوفو | كقرصِ الشمسِ يعرفه الأنام |
نَمتْهُ من بني فِرعَوْنَ هامٌ | ومن خلفاء إسماعيلَ هام |
تألقَ في سمائكِ عبقرياً | عليه جلالة ٌ، وله وسام |
ترعرعَتِ الحضارة ُ في حلاهُ | وشبَّ على جواهرِه النظام |
ونال الفنُّ في أولى الليالي | وأخراهنَّ عزَّا لا يرام |
مشَى في جيزة الفُسطاط ظِلٌّ | كظلِّ النيلِ بلَّ به الأوام |
إذا ما مَسّ تُرْباً عاد مِسْكاً | ونافسَ تحته الذهبَ الرَّغام |
وإنْ هو حَلَّ أرضاً قام فيها | جِدارٌ للحضارة ِ أَو دِعام |
فمدرسة ٌ لحرب الجهل تبنى | ومستشفى يذادُ به السقام |
ودارٌ يُستَغاثُ بها فَيَمضي | إلى الإسعافِ أنجادٌ كرامُ |
أُساة ُ جِراحة ٍ حِيناً وحِيناً | مَيازيبٌ إذا انفجر الضِّرام |
وأحواضٌ يراضُ النيلُ فيها | وكلُّ نجيبة ٍ ولها لجام |
أبا الفاروقِ، أقبلنا صفوفاً | وأَنتَ من الصفوفِ هو الإمام |
طلعتَ على الصعيدِ فهشَّ حتى | علا شَفَتَيْ أَبي الهول ابتسام |
ركابٌ سارتِ الآمالُ فيه | وطافَ به التلفُّتُ والزحام |
فماذا في طريقك من كفور | أجلُّ من البيوتِ بها الرجام |
كأن الراقدين بكل قاعٍ | همُ الأيقاظُ، واليقظى النِّيام |
لقد أَزَمَ الزمانُ الناسَ، فانظُرْ | فعندكَ تفرجُ الإزمُ العظام |
وبعدَ غدٍ يفارقُ عامُ بؤسٍ | ويَخلُفه من النَّعماءِ عام |
يَدورُ بمصرَ حالاً بعدَ حالٍ | زمانٌ ما لحاليهِ دوام |
ومصرُ بناءُ جدَّكَ لم يتممْ | أليس على يديكَ له تمام؟ |
فلسنا أمة ً قعدتْ بشمسٍ | ولا بلداً بضاعتُه الكلام |
ولكنْ هِمَّة ٌ في كلِّ حينٍ | يَشُدُّ بِناءَها المَلِكُ الهُمام |
نرومُ الغاية َ القصوى ، فنمضي | وأنت على الطريقِ هو الزمام |
ونقصر خطوة ً، ونمدُّ أخرى | وتلجئنا المسافة والمرام |
ونَصبرُ للشدائدِ في مقامٍ | ويغلبنا على صبر مقام |
فقوِّ حضارة َ الماضي بأخرى | لها زَهْوٌ بِعصرِكَ واتّسامُ |
ترفُّ صحائفُ البرديِّ فيها | وينطقُ في هياكلها الرُّخام |
رَعَتك ووادياً ترعاه عنَّا | من الرحمنِ عينٌ لا تنام |
فإن يك تاجُ مصرَ لها قواماً | فمصرُ لتاجها العالي قوام |
لِتهنأ مصرُ، ولْيَهْنأ بَنوها | فبينَ الرأْسِ والجِسمِ التئام |
شرفاً نصيرُ ، ارفعْ جبينكَ عالياً
شرفاً نصيرُ ، ارفعْ جبينكَ عالياً | وتَلقَّ من أوطانك الإكليلا |
يَهنِيكَ ما أُعطِيتَ من إكرامِها | ومُنِحْتَ مِن عطف ابنِ إسماعيلا |
اليومَ يَومُ السَّابِقين، فكنْ فتًى | لم يبغِ من قصبِ الرِّهانِ بديلا |
وإذا جَرَيْتَ مع السوابق فاقتحِمْ | غرراً تسيل إلى المدى وحجولا |
حتى يراكَ الجمعُ أوَّلَ طالعٍ | ويَرَوْا على أَعرافِك المِنْديلا |
هذا زمانٌ لا توسُّط عنده | يَبْغِي المُغامِرُ عالياً وجليلا |
كنْ سابقاً فيه، أَو کبْقَ بِمَعْزِلٍ | ليس التوسُّطُ للنُبوغِ سبيلا |
ياقاهرَ الغربِ العتيدِ ، ملأته | بثناءِ مِصْرَ على الشفاهِ جَميلا |
قلَّبتَ فيه يداً تكاد لشدَّة ٍ | في البأْسِ ترفع في الفَضاءِ الفِيلا! |
إن الذي خلق الحديدَ وبأسه | جعل الحديد لساعديكَ ذليلا |
زَحْزَحْتَه، فتخاذلتْ أَجلادُه | وطَرحْتَه أَرضاً، فصَلَّ صَليلا |
لِمَ لا يَلِينُ لك الحديدُ ولم تزَلْ | تتلو عليه وتقرأُ التَّنزِيلا؟ |
الأَزْمَة اشْتَدَّتْ ورانَ بلاؤُها | فاصدمْ بركنك ركنها ليميلا |
شمشونُ أَنت، وقد رَستْ أَركانُها | فتَمشَّ في أَركانِها لِتَزولا |
قلْ لي نصيرُ وأنت برٌّ صادقٌ | أحملتَ إنساناً عليك ثقيلا ؟ |
أحملتَ ديناً في حياتك مرَّة ً ؟ | أحملتَ يوماً في الضُّلوعِ غليلا ؟ |
أحملتَ ظلماً من قريبٍ غادرٍ | أو كاشحٍ بالأَمسِ كان خَليلا؟ |
أحملتَ منًّا من قريبٍ مكرَّراً | والليلِ، مِنْ مُسْدٍ إليك جَميلا؟ |
أحملتَ طغيانَ اللثيمِ إذا اغتنى | أَو نال مِنْ جاهِ الأُمورِ قليلا؟ |
أحملتَ في النادي الغبيَّ إذا التقى | من سامعيه الحمدَ والتّبجيلا ؟ |
تلك الحياة ُ، وهذه أَثقالُها | وزن الحديدُ بها فعاد ضئيلا ! |
ياابنَ زيدونَ ، مرحبا
ياابنَ زيدونَ ، مرحبا | قد أطلتَ التغيُّبا |
إن ديوانَكَ الذي | ظلَّ سرًّ محجبَّا ، |
يشتكي اليتيم درُّه | ويقاسي التَّغرُّبا. . . |
. . . صار في كل بلدة ٍ | للأَلِبَّاءِ مَطْلبا |
جاءنا كاملٌ به | عربيًّا مهذَّبا |
تجدُ النَّصَّ معجبا | وترى الشَّرح أعجبا |
أنتَ في القول كلِّه | أَجْملُ الناسِ مَذهبا |
بأبي أنتَ هيكلاً | مِن فنونٍ مُركَّبا |
شاعِراً أَم مُصَوِّراً | كنتَ ، أم كنتَ مطربا ؟ |
ترسل اللحنَ كلَّه | مبدعاً فيه ، مربا |
أحسنَ الناس هاتفاً | بالغواني مشبِّبا |
ونزيلَ المتوَّج | ـينَ، النديمَ المُقرَّبا |
كم سقاهم بشعره | مِدْحَة ً أَو تَعَتُّبا |
ومن المدحِ ما جزى | وأَذاعَ المناقِبا |
وإذا الهجرُ هاجهُ | لمُعَاناته أبى |
ورآه رذيلهً | لا تماشي التأدُّبا |
ما رأَى الناسُ شاعِراً | فاضل الخُلْقِ طيِّبا |
دَسَّ للناشقين في | زَنبَقِ الشعرِ عَقربا |
جُلتَ في الخُلد جوْلة ً | هل عن الخلد مِنْ نَبا؟ |
صف لنا ما وراءه | من عيونٍ، ومن رُبَى |
ونعيمٍ ونَضرة ٍ | وظلالٍ من الصِّبا |
وصِفِ الحور موجزاً | |
قم ترى الأرضَ مثلما | كنتمو أمسِ ملعبا |
وترى العيشَ لم يزلْ | لبني الموتِ مأربا |
وترى ذَاكَ بالذي | عند هذا مُعَذَّبا |
إنَّ مروانَ عصبة ٌ | يَصنعونَ العجائبَا |
طوَّفوا الأَرض مَشرِقاً | بالأيادي ومغربا |
هالة ٌ أَطلعتْكَ في | ذِروة المجدِ كوكبا |
أَنت للفتحِ تنتمي | وكفى الفتحُ منصبا |
لستُ أَرْضَى بغيره | لك جدًّا ولا أبا |
وعصابة ٍ بالخيرِ ألِّف شملهم
وعصابة ٍ بالخيرِ ألِّف شملهم | والخيرُ أفضلُ عصبة ً ورفاقا |
جعلوا التَّعاونَ والبناية َ هَمَّهم | واستنهضوا الآدابَ والأَخلاقا |
ولقد يُداوُون الجِراح بِبرِّهم | ويقاتلون البؤسَ والإملاقا |
يسمونَ بالأدب الجديدِ ، وتارة ً | يَبْنُون للأَدبِ القديمِ رِواقا |
عَرَضَ القُعودُ فكان دون نُبوغِهِ | قَيداً، ودونَ خُطَى الشباب وِثاقا |
البلبلُ الغردُ الذي هزَّ الرُّبى | وشجى الغصونَ ، وحرَّكَ الأوراقا |
خَلَفَ البَهاءَ على القريض وكأْسِهِ | فسَقَى بعَذبِ نسيبِه العُشَّاقا |
في القيد مُمتنِعُ الخُطى ، وخياله | يَطوِي البلادَ ويَنشُر الآفاقا |
سبَّاقُ غاياتِ البيانِ جَرى بلا | ساقٍ ، فكيف إذا استرادَّ الساقا ؟ ! |
لو يطعمُ الطِّبُّ الصناعُ بيانه | أو لو يسسغُ لما يقولُ مذاقا . . . |
. . . غالي بقيمته ، فلم يصنعُ له | إلا الجَناحَ مُحلِّقاً خفَّاقا! |