لم يَتَّفِقْ مما جَرَى في المركبِ

لم يَتَّفِقْ مما جَرَى في المركبِ ككذبِ القردِ على نوحِ النبي
فإنه كان بأقصى السطحِ فاشتاقَ من خفته للمزحِ
وصاحَ: يا للطير والأسماكِ لِموْجَة ٍ تجِدُّ في هَلاكي!
فَبعثَ النبي له النسورا فوجَدَتْه لاهياً مسرورا
ثم أتى ثانية ً يصيحُ قد ثقبتْ مركبنا يا نوحُ!
فأَرسَل النبيُّ كلَّ مَن حَضرْ فلم يروا كما رأى القرد خطر
وبينما السَّفيهُ يوماً يَلعبُ جادَتْ به على المِياهِ المركبُ
فسمعوه في الدُّجى ينوحُ يقولُ: إني هالكٌ يا نوحُ
سَقطْتُ من حماقتي في الماءِ وصِرْتُ بين الأَرضِ والسماءِ
فلم يصدقْ أحدٌ صياحهْ وقيلَ حقاً هذه وقاحَهْ
قد قال في هذا المقامِ مَن سَبَقْ أكذبُ ما يلفي الكذوبُ إن صدق
من كان ممنواً بداءِ الكذبِ لا يَترُكُ الله، ولا يُعفِي نبي!

قد ود نوح أن يباسط قومه

قد وَدّ نوحٌ أَن يُباسِطَ قوْمَهُفدعا إليهِ معاشرَ الحيوانِ
وأشار أنْ يليَ السفينة َ قائدٌمنهم يكونُ من النهى بمكان
فتقدّمَ الليثُ الرفيع جلالهوتعرّضَ الفيلُ الفخيمُ الشان
وتلاهما باقي السباعِ، وكلهمْخَرُّوا لهيبتِهِ إلى الأَذقان
حتى إذا حيُّوا المؤيَّدَ بالهدىودَعَوْا بطولِ العزِّ والإمكان
سبقتهم لخطابِ نوحٍ نملة ٌكانت هناكَ بجانِبِ الأَرْدان
قالت: نبيَّ اللهِ، أرضى فارسٌوأَنا يَقيناً فارسُ الميْدانِ
سأديرُ دفتها، وأحمي أهلهاوأقودها في عصمة ٍ وأمان
ضحكَ النبيُّ وقال: إنّ سفينتيَلهِيَ الحياة ، وأَنتِ كالإنسان
كل الفضائِل والعظائمِ عندههو أَوّلٌ، والغيْرُ فيها الثاني
ويودُّ لو ساسَ الزَّمانَ، وما لَهُبأَقلِّ أَشغالِ الزمان يَدان
قصيدة شعر أحمد شوقي

الدبُّ معروفٌ بسوءِ الظنِّ

الدبُّ معروفٌ بسوءِ الظنِّ فاسمعْ حديثَهُ العجيبَ عنِّي
لمَّا استطال المُكْثَ في السَّفينهْ ملَّ دوامَ العيشة ِ الظنينه
وقال: إن الموْتَ في انتظاري والماءُ لا شكَّ به قراري
ثم رأى موجاً على بعدٍ علا فظنَّ أن في الفضاء جبلا
فقال: لا بُدَّ من النزولِ وصَلْتُ، أَو لم أَحْظَ بالوُصولِ
قد قال مَن أَدَّبَهُ اختبارُه السعيُ للموتِ ولا انتظاره!
فأَسلمَ النفسَ إلى الأمواجِ وهْيَ مع الرياحِ في هياجِ
فشرِبَ التعيسُ منها، فانتفَخْ ثم رَسا على القرارِ، ورسَخ
وبعدَ ساعتَينِ غِيضَ الماءُ وأَقلَعَتْ بأَمْرِهِ السماءُ
وكان في صاحبنا بعض الرمق إذ جاءَهُ الموتُ بطيئاً في الغرَقْ
وكان في صاحبنا فوقَ الجودي والرَّكبُ في خيْرٍ وفي سُعودِ
فقال: يا لجدِّي التعيسِ أسأت ظني بالنبي الرئيسِ!
ما كان ضَرّني لو امتثَلتُ ومِثلَما قد فعلوا فعلتُ؟!

أبو الحصينِ جالَ في السفينهْ

أبو الحصينِ جالَ في السفينهْ فعرفَ السمينَ والسمينه
يقولُ: إنّ حاله استحالا وإنّ ما كان قديماً زالا
لكونِ ما حلَّ من المصائبِ من غضبِ اللهِ على الثعالبِ
ويغلظُ الأيمانَ للديوكِ لِما عَسَى يَبقى من الشكوك
بأَنهمْ إن نَزَلوا في الأَرضِ يَرَوْنَ منه كلَّ شيءٍ يُرْضِي
قيل: فلمّا تركوا السفينه مشى مع السمينِ والسمينه
حتى إذا نصفوا الطريقا لم يبقِ منهمْ حولهُ رفيقا
وقال: إذْ قالوا عَديمُ الدِّينِ لا عَجَبٌ إن حَنَثَتْ يَميني
فإنما نحن بَني الدَّهاءِ نَعْمَلُ في الشِّدّة ِ للرَّخاءِ
ومَنْ تخاف أَن يَبيعَ دينَهْ تَكفيكَ منه صُحْبَة ُ السفينه!

أنا المدرسة اجعلني

أنا المدرسة ُ اجعلنيكأمِّ ، لا تملْ عنِّي
ولا تفْزَعْ كمأخوذٍمن البيتِ إلى السِّجن
كأني وجهُ صيَّادٍوأَنت الطيرُ في الغصن
ولا بُدَّ لك اليوْمَ وإلا فغداً مِنِّي
أو استغنِ عن العقلِإذنْ عنِّيَ تستغني
أنا المصباحُ للفكرِأنا المفتاحُ للذَّهنِ
أنا البابُ إلى المجدِتعالَ ادخلْ على اليمن
غداً تَرْتَعُ في حَوْشِيولا تشبعُ من صحني
وأَلقاكَ بإخوانٍيُدانونَكَ في السِّنِّ
تناديهمْ بـ يا فكريويا شوقي ، ويا حسني
وآباءٍ أحبُّوكَوما أَنت لهم بابن
قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي

حيا بكور الحيا أرباع لبنان

حَيَّا بَكُورُ الحَيا أرباعَ لُبنانِ وطالَعَ اليُمنُ مَن بالشَّأمِ حَيّاني
أهلَ الشَّآمِ لقد طَوَّقتُمُ عُنُقي بِمنَّة ٍ خرجتْ عن طَوْقِ تبيانِي
قُلْ للكريمِ الذي أَسْدَى إليَّ يدَّاً أّنَى نَزَحْتَ فأنتَ النازِحَ الدَاني
ما إِنْ تَقَاضَيْتُ نَفْسِي ذِكْرَ عارِفَة ٍ هل يَحدثُ الذِّكرُ إلاّ بَعدَ نِسيانِ
ولا عَتَبتُ على خِلٍّ يَضَنُّ بها ما دام يَزْهَدُ في شُكْرِي وعِرفاني
أَقَرَّ عَيْنِيَ أنَّي قُمْتُ أنْشِدُكُمْ في مَعهَدٍ بحُلى العِرفانِ مُزدانِ
وشاعَ فيَّ سُرورٌ لا يُعادِلُه رَدُّ الشَّبابِ إلى شَعْرِي وجُثمانِي
لي مَوطِنٌ في رُبُوعِ النِّيلِ أعظِمُه ولِي هُنا في حِماكُمْ مَوْطنٌ ثانِي
إنِّي رأيتُ على أهْرامِها حُلَلاً مِن الجَلالِ أراهَا فَوْقَ لبنانِ
لم يَمحُ منها ولا من حُسنِ جِدَّتها على التَّعاقُبِ ما يَمحُو الجَديدانِ
حَسِبتُ نَفسي نَزيلاً بينكم فإذا أهلي وصَحبي وأحبابي وجيراني
مِنْ كلِّ أَبْلَجَ سامِي الطَّرْفِ مُضطلِعٍ بالخَطْبِ مُبْهَجٍ بالضَّيْفِ جَدْلانِ
يَمشي إلى المَجدِ مُختالاً ومُبتَسِماً كأنّه حين يَبدُو عُودُ مُرّانِ
سكنتمْ جنة فيحاء ليس بها عَيبٌ سوى أنّها في العالَمِ الفاني
إذا تَأمَّلتَ في صُنعِ الإِله بها لَم تَلقَ في وَشْيهِ صُنعاً لإنسانِ
في سَهْلِها وأعاليهَا وسَلْسَلِها بُرْءُ العليلِ وسَلْوَى العاشِقِ العانِي
وفي تَضَوُّعِ أنفاسِ الرِّياضِ بها رَوْحٌ لكلِّ حَزِينِ القَلْبِ أَسْوانِ
اَنَّى تَخَيَّرْتَ مِنْ لبنان مَنْزِلَة ً في كلِّ مَنزِلَة ٍ رَوضٌ وعَينانِ
يا لَيتَني كنتُ من دُنيايَ في دَعَة ٍ قَلْبي جَميعٌ وأَمْرِي طَوْع وِجْدَانِي
أقضي المَصِيفَ بلُبنانٍ على شَرَفٍ ولا أحُولُ عن المَشتى بحُلوانِ
يا وقفة ً في جبالِ الأرزِ أَنْشُدُها بينَ الصنوبرِ والشربينِ والبانِ
تَستِهبِطُ الوَحْيَ نَفسي من سَماوَتها ويَنثَني مَلَكاً في الشِّعرِ شَيطاني
عَلِّي أُجاوِدُكُم في القَولِ مُقْتَدِياً بشاعِرِ الأرزِ في صُنعٍ وإتْقانِ
لاَ بِدْعَ إنْ أخصبتْ فيها قرائحُكُمْ فأعجزتْ وأعادتْ عهدَحسَّانِ
طيبُ الهَواءِ وطِيبُ الرَّوضِ قدْ صَقَلاَ لَوحَ الخَيالِ فأغراكُم وأغراني
مَن رامَ أن يَشهَدَ الفِردَوسَ ماثِلة ً فليَغشَ أحياءَكُم في شهرِ نَيسانِ
تاهتْ بقبرِصلاحِ الدِّيِنِتُرْبَتُهَا وتاهَ أحياؤُها تِيهاً بمَطرانِ
يَبْنِي ويَهْدِمُ في الشَّعْرِ القدِيم وفي الشِّعر الحدِيثِ فَنعْمَ الهَادِمُ الباني
إذا لَمَحْتُمْ بشِعْري وَمْضَ بَارِقَة ٍ فَبَعْضُ إحْسانِه في القَوْلِ إحْسانِي
رَعياً لشاعِرِكُم، رَعياً لكاتِبِكُم جَزاهُما اللهُ عَنِّي ما يَقُولانِ
ارَى رِجالاً مِن الدُّنيا الجَدِيدَة ِ في الدُّنيا القَدِيمَة ِ تَبْنِي خَيْرَ بُنْيانِ
قد شيَّدواآية ً بالشَّامِ خالِدَة ً شَتَّى المَناهلِ تَروي كلَّ ظَمآنِ
لئِن هَدَوْكُم لقد كانت أوائِلُكُم تَهْدِي أَوائلَهُمْ أَزمْانَ أَزْمانِ
لا غَرَو إنْ عَمَّروا في الأرضِ وابتَكَروا فيها افَانِينَ إصْلاحٍ وعُمْرانِ
فتِلْكَ دُنْياهُمُ في الجَوِّ قد نَزَعَتْ أعِنّة َ الرِّيحِ مِنْ دُنْيا سُلَيْمانِ
أَبَتْ أُمَيّة ُ أَنْ تَفْنَي محَامِدُها على المَدى وأبى أبناءُ غَسّانِ
فمِن غَطارِفَة ٍ في جِلِّقٍ نُجُبٍ ومِنْ غَطَارِفَة ٍ في أَرْضِحَوْرانِ
عافُوا المَذَلَّة َ في الدّنيا فعندهمُ عِزُّ الحياة ِ وعِزُّ المَوْتَ سِيّانِ
لا يَصْبِرُونَ على ضَيْمٍ يُحاوِلُه باغٍ مِنَ الإنسِ أو طاغٍ من الجانِ
شَقَقْتُ أسْواقَبَيرُوتٍفما أَخَذَتْ عينايَ في ساحِهَا حانوتَ يونانِي
فقلتُ في غِبطَة ٍ: للهِ دَرُّهُمُ وَلَّوْا سِراعاً وخَلَّوْا ذلك الواني
تَيَمَّمُوا أرضَ كُولُمبٍ فما شَعَرَت منهم بَوطءِ غَريبِ الدارِ حَيرانِ
سادُوا وشادُوا وأبلَوا في مَناكِبِها بلاءَ مُضظَلِعٍ بالأمرِ مَعوانِ
إنْ ضاقَ ميدانُ سبقٍ منْ عزائمِهِمْ صاحتْ بهمْ فأروهَا الفَ ميدانِ
لا يستشيرونَ إِن همّوا سوى همَهم تأبَى المُقامَ على ذّلٍّ وإِذعانِ
ولا يُبالونَ إنْ كانت قُبُورُهُمْ ذُرا الشَّوامِخ أو أجوافَ حِيتانِ
في الكونِ مورقهمْ في الشامِ مغرسهمْ والغرسُ يزكو نقالاً بينَ بلدانِ
إنْ لم يَفُوزا بسلطانٍ يُقِرُّهُمُ ففي المُهاجَرِقد عَزُّوا بسلطانِ
أو ضاقتِ الشأمُ عن برهانِ قدرتهَمْ ففي المُهاجَرِ قد جاءُوا ببرهانِ
إنّا رأينا كراماً من رجالهمُ كانوا عليهمْ لدينا خير عنوانِ
أنّى التقينا التقَى في كلِ مجتمعٍ أهلٌ بأهلٍ وإخوانٌ باخوانِ
كمْ في نواحي ربوعِ النّيلِ من طرفٍ لليازجيِّ وصروفٍ وزيدانِ
وكم لأحيائِهِم في الصُّحفِ من أثَرٍ له المقطّمُ والأهرامُ رنانِ
متى أرى الشّرقَ أدناهُ أبعده عن مَطمَعِ الغَرب فيه غيرَ وَسْنانِ
تجري المودّة من أعراقه طلقاً كجرية ِ الماءِ في أثناءِ أفنانِ
لافرقَ بين بوذيِّ يعيشُ به ومسلمٍ ويهوديٍ ونصرانِي
مابالُ دُنياهُ لمّا فاءَ وارِفُها عليه أدبرتْ من غيرِ إيذانِ
عهدُ الرشيدِ ببغدادَ عفا ومَضَى وفي دِمَشق انطوى عهدُ ابنِ مروانِ
لاتسلْ بعده عن عهدِ قرطبة ٍ كيف انمحى ْ بين أسيافٍ ونيرانِ
فعَلِّموا كلَّ حَيٍّ عندَ مَولِدِه عليكَ للهِ والأوطانِ دينانِ
حَتمٌ قَضاؤُهُما حَتمٌ جَزاؤُهُما فآربأ بنفسكَ أن تمنَى بخسرانِ
النَّيلُ وهو إلى الأُردُنِّ في شَغَفٍ يُهدي إلى بَرَدى أشواقَ وَلهانِ
وفي العِراقِ به وَجدٌ بدِجلَتِه وبالفراتِ وتحنانٌ لسيحانِ
إِن دامَ ما نَحنُ فيهِ مِن مُدابَرَةٍ                            وَفِتنَةٍ بَينَ أَجناسٍ وَأَديانِ
رأيتُ رأى َ المعرّي حين أرهقَه ما حلّ بالناسِ من بغيٍ وعدوانِ
لا تطهرُ الأرضَ من رجسٍ ومن درنٍ حتى يُعاوِدَها نُوحٌ بطُوفانِ
ولّى الشبابُ وجازتني فتوتُه وهَدَّمَ السُّقمُ بعدَ السُّقمِ أركاني
وَقَد وَقَفتُ عَلى السِتّينِ أَسأَلُها أسوّفت أم أعدّت حرَّ أكفاني
شاهَدتُ مَصرَعَ أترابي فَبَشَّرَني بضجعة ٍ عندها روحي وريحاني
كم منْ قريبٍ نأى عنّي فأوجَعَني وكم عَزيزٍ مَضَى قبلي فأبكاني
من كانَ يسألُ عن قومي فإنّهمُ                           وَلَّوا سِراعاً وَخَلَّوا ذَلِكَ الواني
إني مللّتُ وقوفي كلِ آونة ٍ أبكي وأنظِمُ أحزاناً بأحزانِ
إذا تَصَفَّحتَ ديواني لتَقَرأَني وجدتَ شعرَ المراثي نصفَ ديواني
أتيتُ مستشفياً والشوقُ يدفعُ بي إلى رُباكُم وعودِي غيرُ فينانِ
فأنزِلُوني مَكاناً أستَجِمُّ به ويَنجلي عن فؤادي بَرحُ أحزاني
وجنبّوني على شكرٍ موائدكُم بما حَوَتْ من أفاوِيهٍ وألوانِ
حسبي وحسبُ النُّهى ما نلتُ من كرمٍ قد كدتُ أنسى به أَهلي وخُلاّني