يا قَوْمُ عَيْنَيّ شامَتْ – للجَهْلِ في الجوِّ نارا |
تَتْلو سَحاباً رُكاماً – يَتْلو قَتاماً مُثارا |
يُثيرُ في الأرضِ ريحاً – يُهيجُ فيها غُبارا |
تُلْفي الشَّديدَ صَريعاً – تُبْقي الأديبَ حِمارا |
مِنها الفَضاءُ ظَلامٌ – والنَّاسُ منْها سُكارى |
قَدْ أوْرَثَتْهُمْ دُواراً – وأعْقَبَتْهُمْ خُمارا |
لا يَعْرِفُ المَرْءُ مِنها – لَيْلاً رأى أمْ نَهارا |
يَخالُ كُلَّ خَيالٍ – سَرَى تَسَرْبَلَ فارا |
يا قَوْمُ سِرتُمْ حَثيثاً – خُطًى وَرَاءً كِبارا |
نَبَذْتُمُ العِلْمَ نَبْذَ ال – نَّوى قِلًى وصَغارا |
لَبِسْتُم الجَهْلَ ثَوْباً – تَخَذْتُموهُ شِعارا |
يا قَوْمُ مَا لي أراكُمْ – قَطَنْتُمُ الجَهْلَ دارا |
أضَعْتُمُ مَجْدَ قَوْمٍ – شادوا الحَياةَ فَخارا |
أبْقوا سَماءَ المَعالي – بِما أضاءوا مَنارا |
حاكوا لَكُمْ ثَوْبَ عِزٍّ – خَلَعْتُموهُ احتِقارا |
ثمَّ ارتديتم – لَبوسَ خِزيٍ وعارا |
يا لَيْتَ قَوْمي أصاخوا – لِما أقولُ جِهارا |
يا شِعْرُ أسْمَعْتَ لكِنْ – قَوْمي أراهُمْ سُكارى |
فلا تُبالِ إِذا مَا – أعْطوا نِداكَ ازْوِرارا |
واصبِرْ على مَا تُلاقي – واصْدَعْ وُقيتَ العِثارا |
قصائد ابو القاسم الشابي
أروع قصائد الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي الملقب بشاعر الخضراء.
في جبال الهموم أنبت أغصاني
في جبالِ الهمومِ أنْبتُّ أغصاني – فَرَفتْ بين الصخور بِجُهْدِ |
وتَغَشَّانيَ الضَبابُ فأورقتُ – وأزْهَرتُ للعَواصفِ وَحْدي |
وتمايلتُ في الظَّلامِ وعَطّرتُ – فَضاءَ الأسى بأنفاسِ وَردي |
وبمجدِ الحياةِ والشوقِ غنَّيْتُ – فلم تفهمِ الأعاصيرُ قَصْدي |
ورَمَتْ للوهادِ أفنانيَ الخضْرَ – وظلّتْ في الثَّلْجِ تحفر لَحْدي |
ومَضتْ بالشَّذى فَقُلتُ ستبني – في مروجِ السَّماءِ بالعِطر مَجْدي |
وتَغَزلْتُ بالرَّبيعِ وبالفجرِ – فماذا ستفعلُ الرّيحُ بعدي |
رفرفت في دجية الليل الحزين
رَفْرَفَتْ في دُجْيَةِ اللَّيْلِ الحَزينْ – زُمرةُ الأَحْلامْ |
فَوْقَ سِرْبٍ من غَمَاماتِ الشُّجُونْ – مِلْؤُها الآلامْ |
شَخَصَتْ لمَّا رَأَتْ عَيْنُ النُّجُومْ – بَعْثَةَ العُشَّاقْ |
وَرَمَتْها مِنْ سَمَاها بِرُجُومْ – تَسْكُبُ الأَحْراقْ |
كنتُ إذْ ذاكَ على ثَوْبِ السُّكُون – أَنْثُرُ الأَحْزانْ |
والهَوَى يَسْكُبُ أَصْداءَ المَنُونْ – في فُؤادٍ فَانْ |
سَاكِتاً مِثْلَ جَميعِ الكَائِناتْ – رَاكِدَ الأَلْحانْ |
هائِمٌ قَلْبي بأَعْماقِ الحَيَاةْ – تَائِهٌ حَيْرانْ |
إنَّ للحُبِّ على النَّاسِ يَدا – تَقْصِفُ الأَعْمارْ |
وَلَهُ فَجْرٌ على طُولِ المدى – سَاطِعُ الأَنْوارْ |
ثَوْرَةُ الشَّرِّ وأَحْلامُ السَّلامْ – وجَمالُ النُّورْ |
وابتسامُ الفَجْرِ في حُزْنِ الظَّلامْ – في العُيونِ الحُورْ |
أدركت فجر الحياة أعمى
أَدركتَ فَجْرَ الحَيَاةِ أَعمًى – وكنتَ لا تَعْرِفُ الظَّلامْ |
فأَطْبَقَتْ حَوْلَكَ الدَّياجِي – وغامَ مِنْ فوْقِكَ الغَمَامْ |
وعِشْتَ في وَحْشَةٍ تُقاسي – خواطراً كلّها ضرامْ |
وغُرْبَة مَا بِها رَفيقٌ – وظلمةٍ مَا لها خِتامْ |
تشقُّ تِيهَ الوُجُودِ فرداً – قَدْ عضَّكَ الفَقْرُ والسُّقَامْ |
وطارَدَتْ نَفْسَكَ المآسي – وفَرَّ مِنْ قَلْبِكَ السَّلامْ |
هوِّنْ على قلبك المعنَّى – إنْ كُنْتَ لا تُبْصِرُ النُّجُومْ |
ولا ترى الغابَ وهو يلغو – وفوقه تَخْطُرُ الغُيومْ |
ولا ترى الجَدْوَلَ المغنِّي – وحَوْلَهُ يَرْقُصُ الغيمْ |
فكلُّنا بائسٌ جديرٌ – برأْفَةِ الخَالقِ العَظيمْ |
وكلُّنا في الحَيَاةِ أعمى – يَسُوقهُ زَعْزَعٌ عَقِيمْ |
وحوله تَزْعَقُ المنايا – كأنَّها جنَّةُ الجَحِيمْ |
يا صاحِ إنَّ الحَيَاة قفرٌ – مروِّعٌ ماؤهُ سَرَابْ |
لا يجتني الطَّرْفُ منه إلاَّ – عَواطفَ الشَّوْكِ والتُّرابْ |
وأَسعدُ النَّاس فيه أَعمى – لا يُبْصِرُ الهول والمُصَابْ |
ولا يرى أَنْفُسَ البرايا – تَذُوبُ في وقْدَةِ العَذَابْ |
فاحمد إِلهَ الحَيَاةِ واقنعْ – فيها بأَلْحانِكَ العِذَابْ |
وعِشْ كما شاءَتِ اللَّيالي – مِنْ آهَةِ النَّايِ والرَّبَابْ |
يا أيها الغاب المنم
يا أَيُّها الغابُ المُنَمْ – مَقُ بالأَشعَّةِ والوردْ |
يا أَيُّها النُّورُ النَّقِيٌّ – وأيُّها الفجرُ البعيدْ |
أين اختفيتَ وما الَّذي – أَقْصاكَ عن هذا الوُجُودْ |
آهٍ لقدْ كانتْ حَياتي – فيكَ حالمةً تَمِيدْ |
بَيْنَ الخَمائِلِ والجَداوِلِ – والتَّرنُّمِ والنَّشيدْ |
تُصغي لنجواكَ الجميلَةِ – وهي أُغنِيَةُ الخٌلودْ |
وتعيشُ في كونٍ من – الغَفَلاتِ فتَّانٍ سَعيدْ |
آهٍ لقدْ غنَّى الصَّباحُ – فدَمْدَمَ اللَّيلُ العَتيدْ |
وتأَلَّقَ النَّجمُ الوضِيءُ – فأَعْتَمَ الغيمُ الرَّكُودْ |
ومضَى الرَّدى بسَعَادتي – وقضى على الحُبِّ الوَليدْ |
يا أيها السادر في غيه
يا أيها السَّادرُ في غَيِّهِ – يا واقِفاً فَوْقَ حُطَامِ الجِباهْ |
مهلاً ففي أَنَّاتِ من دُسْتَهُمْ – صوتٌ رهيبٌ سوفَ يَدْوِي صَدَاهْ |
لا تأمَنَنَّ الدَّهْرَ إمَّا غَفَا – في كهفِهِ الدَّاجي وطالتْ رُؤَاهْ |
فإنْ قَضَى اليومُ وما قَبْلَهُ – ففي الغدِ الحيِّ صَبَاحُ الحَياهْ |
يا أَيُّها الجبَّارُ لا تزدري – فالحقُّ جبَّارٌ طويلُ الأَنَاهْ |
يَغْفَى وفي أَجْفَانِهِ يقْظَةٌ – ترنو إلى الفَجْرِ الَّذي لا تَرَاهْ |