أغنية زفاف

وانتقلتُ إليكَ كما انتقل الفلكيّونَ
من كوكبٍ نحو آخرَ. روحي تُطلُّ
على جسدي من أَصابعك العَشْر
خُذْني إليك اُنطلق باليمامة حتى
أَقاصي الهديل على جانبيك: المدى
والصدى. وَدَعِ الخَيْلَ تركُضْ ورائي
سدى فأنا لا أَرى صورتي بَعْدُ
في مائها – لا أَرى أَحدا
لا أَرى أَحداً لا أَراكَ . فماذا
صنعتَ بحريتي؟ مَنْ أَنا خلف
سًورِ المدينةِ؟ أُمَّ تعجنُ شَعْري
الطويلَ بحنّائها الأَبديّ ولا أُخْتَ
تضفِرُهُ . مَنْ أَنا خارج السور بين
حقولٍ حياديَّةٍ وسماء رماديّةٍ, فلتكن
أَنتَ أُمِّيَ في بَلَد الغُرَبَاء . وخذني
برفق إلى مَنْ أَكونُ غدا
مَنْ أكونُ غداً؟ هل سأُولَدُ من
ضلعِكَ اُمرأةً لا هُمُومَ لها غيرُ زينةِ
دُنْيَاكَ. أمْ سوف أَبكي هناك على
حَجَرٍ كان يُرْشِدُ غيمي إلى ماء بئرك
خذني إلى آخر
الأرض قبل طلوع الصباح على قَمَرٍ كان
يبكي دماً في السرير وخُذْني برفق
كما تأخُذُ النجمةُ الحالمين إليها سُدىً
وسُدى
وسدىً أَتطلَّعُ خلف جبال مُؤَاب
فلا ريح تُرْجعُ ثوب العروس, أُحبُّكَ
لكنَّ قلبي يرنّ برجع الصدى ويحنُّ
إلى سَوْسَنٍ آخر, هل هنالك حُزْنٌ أَشدُّ
التباساً على النفس من فَرَ البنت
في عُرْسها؟ وأُحبك مهما تذكرتُ
أَمسِ ومهما تذكرتُ أَني نسيتُ
الصدى في الصدى
أَلصدى في الصدى وانتقلتُ إليكَ
كما انتقلَ من كائنٍ نحو آخر
كنا غريبين في بلدين بعيدين قبل قليل
فماذا أكون غداةَ غد عندما أُصبحُ
اثنين؟ ماذا صَنَعْتَ بحُريَّتي؟ كلما
ازداد خوفيَ منك اندفعتُ إليك
ولا فضل لي يا حبيبي الغريب سوى
وَلَعي فلتكن ثعلباً طيِّباً في كرومي
وحدِّق بخُضْرة عينيك في وجعي, لن
أعود إلى اُسمي وبرِّيتي أَبداً
أَبداً
شعر محمود درويش

صوت من الغابة

من غابة الزيتون
جاء الصدى
وكنت مصلوبا على النار
أقول للغربان لا تنهشي
فربما أرجع للدار
وربما تشتي السما
ربما
تطفيء هذا الخشب الضاري
أنزل يوما عن صليبي
ترى
كيف أعود حافيا.. عاري
شعر محمود درويش

قاع المدينة

عشرون أغنية عن الموت المفاجيء
كل أغنية قبيلة
ونحب أسباب السقوط
على الشوارع
كل نافذة خميلة
والموت مكتمل
قفي ملء الهزيمة يا مدينتنا النبيلة
في كلّ موت كان موتي
حالة أخرى
بديلا كان للغة الهزيلة
والعائدون من الجنازة عانقوني
كسّروا ضلعين
وانصرفوا
ومن عاداتهم أن يكذبوا
لكنّني صدقّتهم
وخرجت من جلدي
لأغرق في شوارعك القتيلة
تتفجرين الآن برقوقا
وأنفجر اعترافا جارحا بالحبّ
لولا الموت
كنت حجارة سوداء
كنت يدا محنّطة نحيلة
لا لون للجدران
لولا قطرة الدم
لا ملامح للدروب المستطيلة
والعائدون من الجنازة عانقوني
كسّروا ضلعين
وانصرفوا
ومن عاداتهم أن يسأموا
لكنهم كانوا يريدون البقاء
خرجت من جلدي
وقابلت الطفولة
قد صار للإسمنت نبض فيك
صار لكل قنطرة جديلة
شكرا صليب مدينتي
شكرا
لقد علّمتنا لون القرنفل و البطولة
يا جسرنا الممتدّ من فرح الطفولة
يا صليب إلى الكهولة
الآن
نكتشف المدينة فيك
آه.. يا مدينتنا الجميلة
شعر محمود درويش

على غلاف أسطورة

ينام المغنّي على أسطوانة
يخبيء أقماره في الخزانة
وينسى زمانه
وينسى مكانه
ويحلم خارج أرض اللغات
وكان مغنّيك يحترف الابتسام
ويؤمن بالسيف
إن كان غمد السيوف عقيدة
ويحتقر الحبّ
إن كان مسألة في قصيدة
وكان ربابة كل الخيام
أراد مرايا جديدة
فلم يجد الصورة المقنعة
أراد ميادين واسعة
فتاهت بها الزوبعة
وحن إلى قيده
كي يفّر من الظلّ و القبّعة
دعيه يقل ما لديه
من الصمت و التجربة
لقد صدئت شمسه المتعبة
ونام على أسطوانة
وخبأ أقماره في خزانة
قصيدة محمود درويش

المناديل

كمقابر الشهداء صمُتكِ
والطريق إلى امتداد
ويداك – أذكر طائرين
يحوّمان على فؤادي
فدعي مخاص البرق
للأفق المعبّأ بالسواد
و توقّعي قبلاً مُدمّاةً
و يوماً دون زادِ
و تعوِّدي ما دُمتِ لي
مَوتي – وَ أحزان البعادِ
كفنّ مناديل الوداع
وخَفَق ريح في الرمادِ
ما لوّحت إلاّ ودم سال
في أغوار وادِ
وبكى لصوتٍ ما، حنين
في شراع السندبادِ
رُدّي، سألتُكِ شهقة المنديل
مزمارا ينادي
فرحي بأن ألقاك وعدا
كان يكبر في بعادي
ما لي سوى عينيك لا تبكي
على موتٍ معادِ
لا تستعيري من مناديلي
أناشيد الودادِ
أرجوكِ! لفيها ضماداً
حول جرحٍ في بلادي
قصيدة محمود درويش

كتابة بالفحم المحترق

مدينتنا – حوصرت في الظهيرة
مدينتنا اكتشفت وجهها في الحصار
لقد كذب اللون
لا شأن لي يا أسيرة
بشمس تلمّع أوسمة الفاتحين
وأحذية الراقصين
ولا شأن لي يا شوارع إلا
بأرقام موتاك
فاحترقي كالظهيرة
كأنك طالعة من كتاب المراثي
ثقوب من الضوء في وجهك الساحليّ
تعيد جبيني إليّ
وتملأني بالحماس القديم إلى أبويّ
و ما كنت أؤمن إلاّ
بما يجعل القلب مقهى و سوق
ولكنني خارج من مسامير هذا الصليب
لأبحث عن مصدر آخر للبروق
وشكل جديد لوجه الحبيب
رأيت الشوارع تقتل أسماءها
وترتيبها
وأنت تظلين في الشرفة النازلة
إلى القاع
عينين من دون وجه
ولكن صوتك يخترق اللوحة الذابلة
مدينتنا حوصرت في الظهيرة
مدينتنا اكتشفت وجهها في الحصار
شعر محمود درويش