خلقنا لنبلغَ شَأوَ الكمالِ | وَنُصبحَ أهلاً لمجدِ الخُلُودْ |
وتطهرُ أرواحنا في الحياة | بنار الأسى |
وَنَكْسَبَ من عَثَراتِ الطَّريقِ | قُوى ً، لا تُهُدُّ بدأبِ الصّعود |
ومجداً، يكون لنا في الخلود | أكاليلَ من رائعاتِ الورود |
أبو القاسم الشابي
الشاعر أبو القاسم بن محمد بن أبي القاسم الشابي الملقب بشاعر الخضراء, شاعر مميز من شعراء العصر الحديث, من تونس.
ولكن إذا ما لَبسنا الخلودَ
ولكن إذا ما لَبسنا الخلودَ | وَنِلنا كمالَ النُّفوسِ البعيدْ |
فهل لا نَمَلُّ دوامَ البقاء؟ | وهل لا نَوَدُّ كمالا جديد |
وكيف يكوننَّ هذا “الكمالُ”: | ماذا تراه؟ وكيف الحدود |
وإنّ جمالَ «الكمال» «الطُّموحُ» | وما دامَ «فكراً» يُرَى من بعيدْ |
فما سِحْرُهُ إنْ غدا «واقعاً» | يُحَسُّ، وأصبحَ شيئاً شهيدْ؟ |
وهل ينطفي في النفوس الحنينُ | وتصبحُ أشواقُنا في خُمودْ |
فلا تطمحُ النَّفْسُ فوقَ الكمالِ | |
إذا لم يَزُل شوْقُها في الخلودِ | فذاكَ لعمري شقاءُ الجدود |
وحربٌ، ضروسٌ،_ كاقد عهدتُ_ | وَنَصْرٌ، وكسرٌ وهمُّ مديدْ |
وإن زال عنُها فذاك الفَناءُ | وإن كانَ في عَرَصات الخُلود |
أنتَ يا شعرُ، فلذة ٌ من فؤادي
أنتَ يا شعرُ، فلذة ٌ من فؤادي | تتغنَّى ، وقطعة ُ من وجودي |
فيكَ مَا في جوانحي مِنْ حَنينٍ | أبديِّ إلى صَميم الوجودِ |
فيكَ مَا في خواطري من بكاءٍ | فيك ما في عواطفي مِنْ نَشيدِ |
فيكَ ما في مَشَاعري مِنْ وُجومٍ | لا يغنِّي، ومن سرور عهيدِ |
فيكَ ما في عَوَالمي مِنْ ظلامٍ | سرمديّ، ومن صباحٍ وليدِ |
فيكَ ما في عَوَالمي من نجومٍ | ضاحكاتٍ خلف الغمام الشرودِ |
فيكَ ما في عَوَالمي من ضَبَابِ | وسراب، ويقظة ، وهجودِ |
فيكَ ما في طفولتي مِنْ سلامٍ، | وابتسامٍ، وغبطة ٍ، وَسُعودِ |
فيكَ ما في شبيتي من حنينٍ، | وشجون، وبهجة ، وجمودِ |
فيك- إن عانق الربيع فؤادي | تتثنَّى سَنَابلي وَوُرُودي |
ويغنى الصّباحُ أنشودة َ الحب، | على مَسْمَعِ الشَّبابِ السَّعيدِ |
ثم أجنى في صيْف أحلاميَ | الساحر ما لذَّ من ثمار الخلودِ |
فيك يبدو خريفُ نفسي مَلُولاً، | شاحبَ اللون، عاريَ الأملود |
حَلَّلْته الحَياة ُ بالحَزَنِ الدّا | هُتافُ السَّؤُوم والمُسْتَعيدِ |
فيك يمشي شتاءُ أيَّاميَ البا | كي، وتُرغي صَوَاعقي وَرُعُودي |
وتجفُّ الزهورُ في قلبيَ الدا | جي، وَتَهْوي إلى قرارٍ بعيدِ. |
أنت يا شعرُ-قصة ٌ عن حَياتي | أنت يا شعرُ صورة ٌ من وجودي |
أنت يا شعر-إن فرحتُ-أغاريدي | وإن غنَّت الكآبة -عودي |
أنت ياشعرُ كأسُ خمرٍ عجيبٍ | أتلَّهى به خلال اللحودِ.. |
أتحسَّاهُ في الصَّباحِ، لأنسى | ما تقضَّى في أمسيَ المفقودِ |
وأناجيه في المساءِ، لِيُلْهِيَني | |
أنتَ ما نِلْتُ من كهوفِ الليالي | وتصفَّحتُ من كتاب الخلودِ |
فيك ما في الوجودِ مِنْ حَلَكٍ، دا | جٍ، وما فيه من ضياءٍ، بَعيدِ |
فيك ما في الوجودِ من نَغَمٍ، | حُلْوٍ، وما فيه مِن ضَجيجٍ، شَديدِ |
فيك ما في الوجودِ مِنْ جَبَلٍ، | وعْرٍ، وما فيه من حَضِيضٍ، وَهِيدِ |
فيك ما في الوجودِ من حَسَكٍ، | يُدْمِي، وما فيه من غَضيضِ الورودِ |
يودُّ الفَتَى لو خاضَ عاصفة َ الرّدى
يودُّ الفَتَى لو خاضَ عاصفة َ الرّدى | وصدَّ الخميسَ المَجْرَ، والأسَدَ الوَرْدَا |
لِيُدْرِكَ أمجادَ الحُروبِ، وَلَوْ دَرى | حَقِيقَتَها مَا رام مِنْ بيْنها مَجْدا |
فَما المجدُ في أنْ تُسْكِرَ الأرضَ بالدِّما | وتركَبَ في هيجائها فرَساً نهْدَا |
ولكنّه في أن تَصُدَّ بهمَّة ٍ | عن العالَمِ المرزوءِ، فيْضَ الأسى صدَّا |
لحن الحياة
إذا الشعبُ يوما أراد الحياة | فلا بد أن يستجيب القـدر |
ولا بـد لليـل أن ينجلي | ولا بـد للقيـد أن ينكسـر |
ومن لم يعانقْـه شـوْقُ الحياة | تبخر فــي جوها واندثر |
فويل لمن لم تَشُـقهُ الحياة | من صفْعـة العــدَم المنتصر |
كـذلك قـالت ليَ الكائناتُ | وحدثني روحُها المستترْ |
ودمــدمتِ الــرِّيحُ بيــن الفِجـاج | وفوق الجبال وتحت الشجرْ |
إذا ما طمحتُ إلــى غايةٍ | ركبتُ المُنى, ونسِـيت الحذرْ |
ولــم أتجــنَّب وعــورَ الشِّـعاب | ولا كُبَّةَ اللّهَب المستعرْ |
ومن يتهيب صعود الجبال | يعش أبَــدَ الدهــر بيــن الحفرْ |
فعجَّــتْ بقلبــي دمــاءُ الشـباب | وضجَّــت بصـدري ريـاحٌ أخَـرْ |
وأطـرقتُ, أصغـي لقصـف الرعـودِ | وعــزفِ الريــاحِ, ووقـعِ المطـرْ |
وقـالت لـي الأرضُ لمـا سـألت | أيــا أمُّ هــل تكــرهين البشــر |
أُبــارك فـي النـاس أهـلَ الطمـوح | ومــن يســتلذُّ ركــوبَ الخــطرْ |
وألْعــنُ مــن لا يماشــي الزمـانَ | ويقنـــع بــالعيْشِ عيشِ الحجَــرْ |
هــو الكــونُ حـيٌّ, يحـبُّ الحيـاة | ويحــتقر المَيْــتَ, مهمــا كــبُرْ |
فـلا الأفْـق يحـضن ميْـتَ الطيـورِ | ولا النحــلُ يلثــم ميْــتَ الزهـرْ |
ولــولا أمُومــةُ قلبِــي الــرّؤوم | لَمَــا ضمّــتِ الميْـتَ تلـك الحُـفَرْ |
فــويلٌ لمــن لــم تشُــقه الحيـا | ة, مِــن لعنــة العــدم المنتصِـرْ |
وفــي ليلــة مـن ليـالي الخـريف | مثقَّلـــةٍ بالأســـى, والضجــرْ |
ســكرتُ بهـا مـن ضيـاء النجـوم | وغنَّيْــتُ للحُــزْن حــتى ســكرْ |
سـألتُ الدُّجـى: هـل تُعيـد الحيـاةُ | لمـــا أذبلتــه, ربيــعَ العمــر |
فلـــم تتكلّم شــفاه الظــلام | ولــم تــترنَّمْ عــذارى السَّــحَرْ |
وقال ليَ الغــابُ في رقَّـةٍ | مُحَبَّبَـــةٍ مثــل خــفْق الوتــرْ |
يجــئ الشــتاءُ شــتاء الضبـاب | شــتاء الثلــوج, شــتاء المطــرْ |
فينطفــئُ السِّـحرُ سـحرُ الغصـونِ | وســحرُ الزهــورِ, وسـحرُ الثمـرْ |
وســحرُ السـماءِ الشـجيُّ الـوديعُ | وســحرُ المـروجِ, الشـهيُّ, العطِـرْ |
وتهـــوِي الغصــونُ وأوراقُهــا | وأزهــارُ عهــدٍ حــبيبٍ نضِــرْ |
وتلهــو بهـا الـريحُ فـي كـل وادٍ | ويدفنُهَــا الســيلُ أنَّــى عــبرْ |
ويفنــى الجــميعُ كحُــلْمٍ بــديعٍ | تـــألّق فـــي مهجــةٍ واندثــرْ |
وتبقــى البــذورُ, التــي حُـمِّلَتْ | ذخــيرةَ عُمْــرٍ جــميلٍ غَــبَرْ |
وذكــرى فصــولٍ ورؤيـا حيـاةٍ | وأشــباحَ دنيــا تلاشــتْ زُمَـرْ |
معانقــةً وهـي تحـت الضبـابِ | وتحــت الثلـوجِ وتحـت المَـدَرْ |
لِطَيْــفِ الحيــاةِ الــذي لا يُمَــلُّ | وقلــبِ الــربيعِ الشــذيِّ الخـضِرْ |
وحالمـــةً بأغـــاني الطيـــورِ | وعِطْــرِ الزهــورِ, وطَعـمِ الثمـرْ |
ويمشـي الزمـانُ, فتنمـو صـروفٌ | وتــذوِي صــروفٌ, وتحيـا أُخَـرْ |
وتُصبِـــحُ أحلامُهـــا يقظَـــةً | مُوَشَّـــحةً بغمـــوضِ السَّــحَرْ |
تُســائل: أيــن ضبـابُ الصبـاحِ | وسِــحْرُ المسـاء? وضـوء القمـر |
وأســرابُ ذاك الفَــراشِ الأنيــق | ونحــلٌ يغنِّــي, وغيــمٌ يمــر |
وأيـــن الأشـــعَّةُ والكائنــاتُ | وأيــن الحيــاةُ التــي أنتظــر |
ظمِئـتُ إلـى النـور, فـوق الغصونِ | ظمِئـتُ إلـى الظـلِ تحـت الشـجرْ |
ظمِئـتُ إلـى النَّبْـعِ, بيـن المـروجِ | يغنِّــي, ويــرقص فـوقَ الزّهَـرْ |
ظمِئــتُ إلــى نَغَمــاتِ الطيـورِ | وهَمْسِ النّســيمِ, ولحــنِ المطــرْ |
ظمِئـتُ إلـى الكـونِ! أيـن الوجـودُ | وأنَّـــى أرى العــالَمَ المنتظــر |
هـو الكـونُ, خـلف سُـباتِ الجـمودِ | وفـــي أُفــقِ اليقظــاتِ الكُــبَرْ |
ومـــا هــو إلا كخــفقِ الجنــا | حِ حــتى نمــا شــوقُها وانتصـرْ |
فصَـــدّعت الأرضَ مــن فوقهــا | وأبْصــرتِ الكـونَ عـذبَ الصُّـوَرْ |
وجـــاء الـــربيعُ, بأنغامِـــه | وأحلامِـــه, وصِبـــاه العطِــرْ |
وقبَّلهـــا قُبَـــلاً فــي الشــفاهِ | تعيــدُ الشــبابَ الــذي قـد غَـبَرْ |
وقــال لهــا: قـد مُنِحْـتِ الحيـاةَ | وخُــلِّدْتِ فــي نســلكِ المُدّخَــرْ |
وبـــاركَكِ النُّـــورُ, فاســتقبلي | شــبابَ الحيــاةِ وخِــصْبَ العُمـرْ |
ومَــن تعبــدُ النــورَ أحلامُــه | يُبَارِكُـــهُ النّــورُ أنّــى ظهــرْ |
إليــكِ الفضــاءَ, إليــكِ الضيـاءَ | إليــك الــثرى, الحـالمَ, المزدهـرْ |
إليــكِ الجمــالَ الــذي لا يَبيــدُ! | إليــكِ الوجـودَ, الرحـيبَ, النضِـرْ |
فميـدي كمـا شئتِ فوق الحقولِ | بحــلوِ الثمــارِ وغــضِّ الزّهَــرْ |
ونــاجي النســيمَ ونـاجي الغيـومَ | ونــاجي النجــومَ, ونـاجي القمـرْ |
ونـــاجي الحيـــاةَ وأشــواقَها | وفتنــةَ هــذا الوجــود الأغــرْ |
وشـفَّ الدجـى عـن جمـالٍ عميـقٍ | يشُــبُّ الخيــالَ, ويُــذكي الفِكَـرْ |
ومُــدّ عـلى الكـون سِـحرٌ غـريبٌ | يُصَرّفــــه ســـاحرٌ مقتـــدرْ |
وضـاءت شـموعُ النجـومِ الوِضـاءِ | وضــاع البَخُــورُ, بخـورُ الزّهَـرْ |
ورفــرف روحٌ غــريبُ الجمـال | بأجنحــةٍ مــن ضيــاء القمــرْ |
ورنَّ نشـــيدُ الحيـــاةِ المقـــدّ | سُ فــي هيكـلٍ, حـالمٍ قـد سُـحِرْ |
وأعْلِــنَ فــي الكـون أنّ الطمـوحَ | لهيـــبُ الحيــاةِ ورُوحُ الظفَــرْ |
إذا طمحـــتْ للحيـــاةِ النفــوسُ | فــلا بــدّ أنْ يســتجيبَ القــدر |
يا ليلُ! ما تصنعُ النفسُ التي سكنتْ
يا ليلُ! ما تصنعُ النفسُ التي سكنتْ | هذا الوجودَ، ومِنْ أعدائها القَدَرُ؟ |
ترضى وَتَسْكُتُ؟ هذا غيرُ محتَمَلٍ! | إذاً، فهل ترفضُ الدنيا، وتنتحرُ؟ |
وذا جنونٌ، لَعَمْري، كلُّه جَزَعٌ | باكٍ، ورأيٌ مريضٌ، كُلُّه خَوَرُ! |
فإنما الموتُ ضَرْبٌ من حَبائِله | لا يُفلتُ الخلقُ ما عاشوا، فما النَّظرُ؟ |
هذا هو اللّغْزُ، عَمَّاهُ وعَقَّدَهُ | على الخليقة ِ، وحْشٌ، فاتكٌ حذِرُ |
قد كَبَّلَ القدرُ الضّاري فرائسَه | فما استطاعُو له دفْعاً، ولا حَزَروا |
وخاطَ أعينَهم، كي لا تُشَاهِدَهُ | عينٌ، فتعلمَ ما يأتي وما يذرُ |
وَحَاطَهُمْ بفنونٍ من حَبَائِلِهِ | فما لَهُمْ أبداً مِنْ بطشِه وَزرُ |
لا الموتُ يُنقذُهم من هَوْل صولَتهِ | ولا الحياة ُ، تَسَاوَى النّاسُ والحَجَرُ! |
حَارَ المساكينُ، وارتاعُوا، وأَعْجَزَهم | أن يحذروهُ، وهَلْ يُجْديهمُ الحذرُ |
وَهُمْ يعيشونَ في دنيا مشيَّدة ٍ | منَ الخطوب، وكونٍ كلَّه خَطرُ؟ |
وكيف يحذرُ أعمَى ، مُدْلِجٌ، تَعِبٌ | هولَ الظَّلامِ، ولا عَزمٌ ولا بَصَرُ؟ |
قد أيقنوا أنه لا شيءَ يُنقذهُم | فاستسلموا لِسُكُونِ الرُّعْبِ، وانتظروا.. |
ولو رأوه لسَارتْ كي تحارِبَه | مِنَ الورى زُمَرٌ، في إثرِهَا زُمَرُ |
وثارت الجنّ، والأملاك ناقمة ً | والبحرُ، والبَرُّ، والأفلاكُ، والعُصُر |
لكنه قوَّة ٌ تُملي إرادتها | سِرَّا، فَنَعْنو لها قهراً، ونأتمرُ |
حقيقة مُرَّة ، يا ليلُ، مُبْغَضَة ٌ | كالموت، لكنْ إليها الوِرْدُ والصَّدَرُ |
تَنَهَّدَ اللَّيْلُ، حتَّى قلتُ: «قد نُثِرَتْ | تلك النجومُ، ومات الجنُّ والبشرُ |
وَعَاد للصّمتِ..، يُصغي في كآبته | كالفيلسوف-إلى الدنيا، ويفتكرُ.. |
وقَهْقَهَ القَدرُ الجبّارُ، سخرية ً | بالكائنات. تَضَاحَكْ أيّها القدرُ! |
تمشي إلى العَدَمِ المحتومِ، باكية ً | طوائفُ الخلق، والأشكالُ والصورُ |
وأنتَ فوقَ الأسى والموت، مبتسمٌ | ترنو إلى الكون، يُبْنَى ، ثمّ يندَثِرُ |