| أَلا إنَّ أَحْلاَمَ الشَّبَابِ ضَئِيلَة ٌ | تُحَطِّمُهَا مِثْلَ الغُصُونِ المَصَائِبُ |
| سألتُ الدَّياجي عن أماني شبيبَتي | فَقَالَتْ: «تَرَامَتْهَا الرِّياحُ الجَوَائِبُ» |
| وَلَمَّا سَأَلْتُ الرِّيحَ عَنْها أَجَابَنِي: | “تلقَّفها سَيْلُ القَضا، والنَّوائبُ |
| فصارَت عفاءً، واضمحلَّت كذرَّة ٍ | عَلى الشَّاطِىء المَحْمُومِ، وَالمَوْجُ صَاخِبُ» |
شاعر تونس
هو الشاعرالكبير أبو القاسم الشابي ويلقب كذلك بشاعر الخضراء.
في الليل ناديت الكواكب ساخطا
| في اللّيل نَادَيتُ الكَوَاكِبَ ساخطاً | متأجَّجَ الآلام والآراب |
| “الحقلُ يملكه جبابرة ُ الدّجى | والروضُ يسكنه بنو الأرباب |
| «والنَّهرُ، للغُول المقدّسة التي | لا ترتوي، والغابُ للحَطّابِ» |
| «وعرائسُ الغابِ الجميلِ، هزيلة ٌ | ظمأى لِكُلِّ جَنى ً، وَكُلِّ شَرابِ» |
| ما هذه الدنيا الكريهة ُ؟ ويلَها! | حَقّتْ عليها لَعْنَة ُ الأَحْقابِ!» |
| الكونُ مُصغٍ، ياكواكبُ، خاشعٌ | طال انتظاري، فانطقي بِجواب”! |
| فسمعتُ صوتاً ساحراً، متموجاً | فوق المروجِ الفيحِ، والأَعْشابِ |
| وَحَفيفَ أجنحة ٍ ترفرف في الفضا | وصدى ً يَرنُّ على سُكون الغابِ: |
| الفجرُ يولدُ باسماً، مُتَهَلِّلاً | في الكونِ، بين دُحنِّة ٍ وضباب |
فلسفة الثعبان المقدس
| كانَ الربيعُ الحُيُّ روحاً، حالماً | غضَّ الشَّبابِ، مُعَطَّرَ الجلبابِ |
| يمشي على الدنيا، بفكرة شاعرٍ | ويطوفها، في موكبٍ خلاَّبِ |
| والأُفقُ يملأه الحنانُ، كأنه | قلبُ الوجود المنتِجِ الوهابِ |
| والكون من طهرِ الحياة كأنما | هُوَ معبدٌ، والغابُ كالمحرابِ |
| والشّاعرُ الشَّحْرورُ يَرْقُصُ، مُنشداً | للشمس، فوقَ الوردِ والأعشابِ |
| شعْرَ السَّعادة والسَّلامِ، ونفسهُ | سَكْرَى بسِحْر العالَم الخلاّبِ |
| ورآه ثعبانُ الجبالِ، فغمَّه | ما فيه من مَرَحٍ، وفيْضِ شبابِ |
| وانقضّ، مضْطَغِناً عليه، كأنَّه | سَوْطُ القضاءِ، ولعنة ُ الأربابِ |
| بُغتَ الشقيُّ، فصاح من هول القضا | متلفِّتاً للصائل المُنتابِ |
| وتَدَفَّق المسكين يصرخُ ثائراً: | «ماذا جنيتُ أنا فَحُقَّ عِقابي؟» |
| لاشيءِ، إلا أنني متغزلٌ | بالكائنات، مغرِّدٌ في غابي |
| «أَلْقَى من الدّنيا حناناً طاهراً | وأَبُثُّها نَجْوَى المحبِّ الصّابي» |
| «أَيُعَدُّ هذا في الوجود جريمة ً؟! | أينَ العدالة ُ يا رفاقَ شبابي؟» |
| «لا أين؟، فالشَّرْعُ المقدّسُ ههنا | رأيُ القويِّ، وفكرة ُ الغَلاّبِ!» |
| «وَسَعَادة ُ الضَّعفاءِ جُرْمُ..، ما لَهُ | عند القويِّ سوى أشدِّ عِقَاب!» |
| ولتشهد- الدنيا التي غَنَّيْتَها | حُلْمَ الشَّبابِ، وَرَوعة َ الإعجابِ |
| «أنَّ السَّلاَمَ حَقِيقة ٌ، مَكْذُوبة ٌ | والعَدْلَ فَلْسَفَة ُ اللّهيبِ الخابي» |
| «لا عَدْلَ، إلا إنْ تعَادَلَتِ القوَى | وتَصَادَمَ الإرهابُ بالإرهاب» |
| فتَبَسَّمّ الثعبانُ بسمة َ هازئٍ | وأجاب في سَمْتٍ، وفرطِ كِذَابِ: |
| «يا أيُّها الغِرُّ المثرثِرُ، إنَّني | أرثِي لثورة ِ جَهْلكَ الثلاّبِ» |
| والغِرُّ بعذره الحكيمُ إذا طغى | جهلُ الصَّبا في قلبه الوثّابِ |
| فاكبح عواطفكَ الجوامحَ، إنها | شَرَدَتْ بلُبِّكَ، واستمعْ لخطابي» |
| أنِّي إلهٌ، طاَلَما عَبَدَ الورى | ظلِّي، وخافوا لعنَتي وعقابي» |
| وتقدَّوموا لِي بالضحايا منهمُ | فَرحينَ، شأنَ العَابدِ الأوّابِ» |
| «وَسَعَادة ُ النَّفسِ التَّقيَّة أنّها | يوماً تكونُ ضحيَّة َ الأَربابِ» |
| «فتصيرُ في رُوح الألوهة بضعة ً، | قُدُسية ٌ، خلصت من الأَوشابِ |
| أفلا يسرُّكَ أن تكون ضحيَّتي | فتحُلَّ في لحمي وفي أعصابي» |
| وتكون عزماً في دمي، وتوهَّجاً | في ناظريَّ، وحدَّة ً في نابي |
| «وتذوبَ في رُوحِي التي لا تنتهي | وتصيرَ بَعََض ألوهتي وشبابي..؟ |
| إني أردتُ لك الخلودَ، مؤلَّهاً | في روحي الباقي على الأحقابِ.. |
| فَكِّرْ، لتدركَ ما أريدُ، وإنّه | أسمى من العيش القَصيرِ النَّابي» |
| فأجابه الشحرورُ ، في غُصًَِ الرَّدى | والموتُ يخنقه: «إليكَ جوابي»: |
| لا رأي للحقِّ الضعيف، ولا صدّى ، | الرَّأيُ، رأيُ القاهر الغلاّبِ |
| «فافعلْ مشيئَتكَ التي قد شئتَها | وارحم جلالَكَ من سماع خطابي” |
| وكذاك تتَّخَذُ المَظَالمُ منطقاً | عذباً لتخفي سَوءَة َ الآرابِ |
إني ارى فأرى جموعا جمة
| إني أرى َ..، فَأرَى جُمُوعاً جَمَّة ً | لكنّها تحيا بِلاَ ألْبابِ |
| يَدْوِي حوالَيْها الزَّمانُ، كأنَّما | يدوي حوالَي جندلٍ وترابِ |
| وإذا استجَابُوا للزمانِ تَنَاكروا | وَتَرَاشَقُوا بالشَّوكِ والأحْصَابِ |
| وقضَوا على رُوح الأخوَّة ِ بينهم | جَهلاً وعاشُوا عِيشة َ الأَغرابِ |
| فرِحتْ بهم غولُ التّعاسة ِ والفَنَا | وَمَطَامِعُ السّلاَّب والغَلاّبِ |
| لُعَبٌ، تُحرِّكُها المَطامعُ، واللّهى | وصَغائِرُ الأحقادِ والآرابِ |
| وأرى نفوساً، مِنْ دُخانٍ، جامدٍ | مَيْتٍ، كأشباحٍ، وراءَ ضَبَابِ |
| مَوتى ، نَسُوا شَوقَ الحياة ِ وعزمَها | وتحرَّكوا كتحرُّكِ الأنصابِ |
| وخبَا بهمْ لَهَبُ الوجودِ، فما بقُوا | إلاَّ كمحترِقٍ من الأخشابِ |
| لا قلبَ يقتحمُ الحياة َ، ولا حِجَى ً | يسمُو سُمُوَّ الطَّائر الجوَّابِ |
| بلْ في الترابِ المَيتِ، في حَزن الثَّرى | تنمو مَشَاعِرُهُمْ مع الأَعشابِ |
| وتموتُ خاملة ً، كَزَهرٍ بائسٍ | ينمو ويذبُل في ظَلامِ الغَابِ |
| أبداً تُحدِّقُ في التراب..، ولا تَرَى | نورَ السماءِ..، فروحُها كتُرابِ..! |
| الشَّاعرُ الموهوبُ يَهْرِق فنَّه | هدراً على الأَقْدامِ والأَعْتابِ |
| ويعيشُ في كونٍ، عقيمٍ، ميِّتٍ | قَدْ شيَّدتْهُ غباوة ُ الأَحقَابِ |
| والعاِلِمُ النِّحريرُ يُنفقُ عُمره | في فهمِ ألفاظٍ، ودرسِ كتابِ |
| يَحيا على رِمَمِ القديم المُجتَوَى | كالدُّود في حِمَمِ الرَّماد الخابي |
| والشَّعبُ بينهما قطيعٌ، ضَائعٌ | دُنياه دنيا مأكلٍ وشرابِ |
| الوَيلُ للحسَّاسِ في دُنياهمُ | ماذا يُلاقي من أَسَى ّ وعَذِابِ! |
أيها الليل يا أبا البؤس والهول
| أيُّها الليلُ! يا أَبَا البؤسِ والهَوْ | لِ،! ياهيكلَ الحَياة ِ الرَّهيبِ! |
| فِيكَ تَجْثُو عرائسُ الأَمَلِ العذْ | بِ، تُصلَّي بصَوتِها المحبوبَ |
| فَيُثيرُ النَّشِيدُ ذكرى حياة ٍ | حَجَبَتها غيومُ دَهر كَئيبِ |
| وَتَرُفُّ الشُّجونُ مِنْ حول قلبي | بسُكُونٍ، وَهَيْبَة ٍ، وَقُطُوبِ |
| أنتَ ياليلُ! ذرَّة ٌ، صعدت للكونِ، | من موطئ الجحيمِ الغَضوبِ |
| أيُّها الليلُ! أنت نَغْمٌ شَجِيُّ | في شفاهِ الدُّهورِ، بين النَّحيبِ |
| إنَّ أُنشودة السُّكُونِ، التي ترتجّ | في صدرك الرّكود، الرحيب |
| تُسْمِعُ النَّفْسَ، في هدوء الأماني | رنة َ الحقَّ، والجمال الخلوبِ |
| فَتَصوغُ القلوبُ، منها أَغَارِيداً، | تَهُزُّ الحياة َ هَزَّ الخُطُوبِ |
| تتلوّى الحياة ُ، مِنْ أَلَم البؤْ | س فتبكي، بلوعة ونحيبِ |
| وَعَلى مَسْمَعيكَ، تَنْهلُّ نوحاً | وعويلاً مُراً، شجون القلوبِ |
| فأرى بُرقعاً شفيفاً، من الأو | جاع، يُلقي عليك شجوَ الكئيبِ |
| وأرى في السُّكون أجنحة الجبَّـ | ـبارِ، مخلصة ً بدمعِ القُلوبِ |
| فَلَكَ اللَّهُ! مِنْ فؤادٍ رَحيمٍ | ولكَ الله! من فؤادٍ كئيب |
| يهجع الكونُ، في مابيبة ِ العصفور | طفلاً، بصدركَ الغربيب |
| وبأحضانك الرحيمة ِ يستيقظُ، في | نضرة الضَّحُوكِ، الطَّرُوبِ |
| شَادياً، كالطُّيوبِ بالأَملِ العَذْ | بِ، جميلاً، كَبَهْجَة ِ الشُّؤْبُوبِ |
| ياظلام الحياة !يا روعة الحزنِ! | ن! وَيَا مِعْزَفَ التَّعِيس الغَرِيبِ |
| وبقيثارة السّكنة ، في كفَّيـ | |
| فَيكَ تنمُو زَنَابِقُ الحُلُمِ العذْ، | بِ، وتذوِي لدَى لهيبِ الخُطوبِ |
| أَمْ قُلُوبٌ مُحِطَّاتٌ عَلَى سَا | بُ ظِلالُ الدُّهورِ، ذَاتَ قُطوبِ |
| لبناتِ الشعر..، لكن قوَّضتهُ الحادثات | |
| وَبِفَوْديكَ، فِي ضَفَائِرِكَ | ـودِ، تدَّب الأيامُ أيَّ دَبيبِ |
| صَاحِ! إنَّ الحياة َ أنشودة ُ الحُزْ | نِ، فرتِّلْ عَلَى الحياة ِ نَحِيبي |
| إنَّ كأسَ الحياة ِ مُتْرَعَة ٌ بالذَّمْـ | مْعِ، فاسْكُبْ على الصَّبَاحِ حَبيبي |
| إنّ وادِي الظَّلامِ يَطْفَحُ بالهَوْ | لِ، فما أبعد ابتسام القلوبِ! |
| لا يُغرّنَّك ابتسامُ بني الأر | ضِ فَخَلْفَ الشُّعاعِ لَذْعُ اللَّهِيبِ |
| أنتَ تدري أنَّ الحياة َ قطو | بٌ وَخُطُوبٌ، فَما حَيَاة ُ القُطُوبِ؟ |
| إنّ في غيبة ِ الليالي، تِباعاً | لخَطيبٌ يمرُّ إثر خطوبِ |
| سَدَّدَتْ في سكينة ِ الكونِ، للأعما | قِ، نفْسي لخطأ بعيدَ الرُّسوبِ |
| نَظْرة ٌ مَزَّقَتْ شِغَافَ اللَّيالي | لي فرأتْ مهجة َ الظْلام الهيوبِ |
| ورأتْ في صميمِها، لوعة َ الحزْ | نِ، وأَصْغَتْ إلى صُراخِ القُلُوبِ |
| لا تُحاوِلْ أنْ تنكرَ الشَّجْوَ، إنّي | قد خبرتُ الحياة َ خُبرَ لبيبِ |
| فتبرمتُ بالسّكينة والضجّـ | ـة ، بل فد كرهتُ فيها نصيبي… |
| كنْ كما شاءَت السماءُ كئيباً | أيُّ شيءٍ يَسُرُّ نفسَ الأَريبِ؟ |
| أنفوسٌ تموتُ، شاخِصَة ً بالهو | لِ، في ظلمة ِ القُنوطِ العَصيبِ؟ |
| حلِ لُجِّ الأَسَى ، | ـجِّ الأَسى ، بموْجِ الخُطوبِ؟ |
| إنما النّاسُ في الحياة طيورٌ | قد رَمَاهَا القَضَا بِوادٍ رَهِيبِ |
| يَعْصُفُ الهولُ في جَوَانبه السو | دِ فيقْضي على صَدَى العندليبِ |
| قَدْ سَألتُ الحياة َ عَنْ نغمة ِ الفَجْـ | ـرِ، وَعَنْ وَجْمة المساءِ القَطُوبِ |
| فسمعتُ الحياة َ، في هيكلِ الأحزا | نِ، تشدو بِلَحْنِها المحبوبِ: |
| مَا سُكوتُ السَّماءِ إلا وُجُومٌ | مَا نشيدُ الصَّبَاحِ غيرُ نحيبِ |
| لَيْسَ في الدَّهْرِ طَائرٌ يتغنّى | في ضِفَافِ الحياة ِ غَيْرَ كَئيبِ |
| خضَّبَ الإكتئابُ أجنحة َ الأيّا | مِ، بِالدَّمْعِ، والدَّم المَسْكُوب |
| وَعَجيبٌ أنْ يفرحَ النّاسُ في كَهْـ | ـفِ اللَّيالي، بِحُزْنِهَا المَشْبُوبِ!» |
| كنتُ أَرْنو إلى الحياة ِ بِلَحْظٍ | باسمٍ، والرّجاءُ دونَ لغوبِ |
| ذَاكَ عَهْدٌ حَسِبْتُهُ بَسْمَة َ الـ | ـفَجْر، ولكنَّه شُعاع الغُروبِ |
| ذَاكَ عَهْدٌ، كَأَنَّه رَنَّة ُ الأفرا | ح، تَنْسَابُ منْ فَمِ العَنْدَليبِ |
| خُفِّفَتْ ـ رَيْثَما أَصَخْتُ لَهَا بالقَلْـ | ـبِ، حيناً ـ وَبُدِّلَتْ بَنَحيبِ |
| إن خمر الحياة وردية ُ اللونِ | ولكنَّها سِمامُ القُلوبِ |
| جرفتْ من قرارة ِ القلبِ أحْلا | مي، إلى اللَّحْدَ، جَائِراتُ الخُطُوبِ |
| فَتَلاشَتْ عَلَى تُخُومِ الليالي | وتهاوَت إلى الجحيم الغضوبِ |
| وسوى في دُجنّة النّفس، ومضٌ | لم يزل بين جيئَة ٍ، وذُهوبِ |
| ذكرياتٌ تميسُ في ظلمة ُ النَّفـ | ـسِ، ضئالاً كرائعاتِ المشيبِ |
| يَا لِقَلْبٍ تَجَرّعَ اللَّوعة َ المُرَّ | ة َ منْ جدولِ الزَّمانِ الرَّهيبِ! |
| وَمَضَتْ في صَمِيمِهِ شُعْلَة ُ الحُزْ | ن، فَعَشَّتْهُ مِنْ شُعَاعِ اللَّهيبِ.. |
ضحكنا على الماضي البعيد وفي غد
| ضحِكْنا على الماضي البعيدِ، وفي غدٍ | ستجعلُنا الأيامُ أضحوكة َ الآتي |
| وتلكَ هِيَ الدُّنيا، رِوَايَة ُ ساحرٍ | عظيمٍ، غريب الفّن، مبدعِ آياتِ |
| يمثلها الأحياءُ في مسرح الأسى | ووسط ضبابِ الهّم، تمثيلَ أمواتِ |
| ليشهدَ مَنْ خَلْفَ الضَّبابِ فصولَها | وَيَضْحَكَ منها مَنْ يمثِّلُ ما ياتي |
| وكلٌّ يؤدِّي دَوْرَهُ..، وهو ضَاحكٌ | على الغيرِ، مُضْحُوكٌ على دوره العاتي |