النبي المجهول

أيْها الشعبُ ليتني كنتُ حطَّاباً فأهوي على الجذوعِ بفأسي
ليتَني كنتُ كالسيّولِ، إذا ما سالَتْ تهدُّ القبورَ: رمْساً برمٍسِ
ليتَني كنتُ كالريّاح، فأطوي ورودُ الرَّبيع مِنْ كلِّ قنْس
ليتني كنتُ كالسّتاء، أُغَشِّي كل ما أَذْبَلَ الخريفُ بقرسي
ليتَ لي قوَّة َ العواصفِ، يا شعبي فأُلقي إليكَ ثَوْرة َ نفسي
ليت لي قوة َ الأعاصيرِ إن ضجَّتْ فأدعوكَ للحياة ِ بنبسي
ليت لي قوة َ الأعاصيرِ لكْ أنتَ حيٌّ، يقضي الحياة برمسِ
أنتَ روحٌ غَبِيَّة ٌ، تكره النّور وتقضي الدهور في ليل مَلْس
أنتَ لا تدركُ الحقائقَ إن طافتْ حواليكَ دون مسّ وجسِ
في صباح الحياة ِ صَمَّخْتُ أكوابي وأترعتُها بخمرة ِ نفسي
ثُمَّ قدَمْتُها إليكَ، فأهرقْتَ رحيقي، ودُستَ يا شعبُ كأسي
فتألَّمت..، ثًمَّ أسكتُّ آلامي وكفكفتُ من شعوري وحسّي
ثُم نَضَّدْتُ من أزاهيرِ قلبي باقة ً، لمْ يَمَسَّها أيُّ إِنْسِي
ثم قدّمْتُها إليكَ، فَمزَّقْتَ ورودي، ودُستَها أيَّ دوسِ
ثم ألبَسْتَني مِنَ الحُزْنِ ثوباً وبشوْك الجِبال توَّجتَ رأسي
إنني ذاهبٌ إلى الغابِ، ياشَعْبي لأقضي الحياة َ، وحدي، بيأسي
إنني ذاهبٌ إلى الغابِ، علَّي في صميم الغابات أدفنُ بؤسي
ثُمَّ أنْسَاكَ ما استطعتُ، فما أنت بأهْلِ لخمرتي ولكَأسي
سوف أتلو على الطُّيور أناشيدي وأُفضي لها بأشواق نَفْسي
فَهْي تدري معنى الحياة ، وتدري أنّ مجدَ النُّفوسِ يَقْظَة ُ حِسِّ
ثم أقْضي هناك، في ظلمة الليل وأُلقي إلى الوجود بيأسي
ثم تَحْتَ الصَّنَوْبَر، النَّاضر، الحلو تَخُطُّ السُّيولُ حُفرة َ رمسي
وتظَلُّ الطيورُ تلغو على قبْرِي ويشدو النَّسيمُ فوقي بهمس
وتظَلُّ الفصولُ تمْشي حواليَّ كما كُنَّ في غَضارَة أمْسي
أيّها الشّعبُ! أنتَ طفلٌ صغيرٌ لاعبٌ بالتُّرابِ والليلُ مُغْسِ
أنتَ في الكَوْنِ قوَّة ٌ، لم تَنسْسها فكرة ٌ، عبقريَّة ٌ، ذاتُ بأسِ
أنتَ في الكَوْنِ قوة ٌ،كبَّلتْها ظُلُمَاتُ العُصور، مِنْ أمس أمسِ
والشقيُّ الشقيُّ من كان مثلي في حَسَاسِيَّتي، ورقَّة ِ نفسي
هكذا قال شاعرٌ، ناولَ النَّاسَ رحيقَ الحياة ِ في خير كأسِ
فأشاحُوا عنْها، ومرُّوا غِضابا واستخفُّوا به، وقالوا بيأس
“قد أضاعَ الرشّادُ في ملعب الجِنّ فيا بؤسهُ، أصيب بمسّ
طالما خاطبَ العواصفَ في الليلِ ويَمْشي في نشوة ِ المُتَحَسِّي
طالما رافقَ الظلامَ إلى الغابِ ونادى الأرواحَ مِن كلِّ جِنْس
طالما حدَّثَ الشياطينَ في الوادي وغنّى مع الرِّياح بجَرسِ
إنه ساحرٌ، تعلِّمُه السحرَ الشياطينُ، كلَّ مطلع شمسْ
فکبعِدوا الكافرَ الخبيثَ عن الهيكلِ إنّ الخَبيثَ منبعُ رِجْسِ
«أطردوه، ولا تُصيخوا إليه فهو روحٌ شريِّرة ٌ، ذات نحْسِ
هَكَذا قَال شاعرٌ، فيلسوفٌ عاشَ في شعبه الغبيِّ بتَعْسِ
جَهِلَ الناسُ روحَه، وأغانيها فساموُا شعورَه سومَ بخْسِ
فَهْوَ في مَذهبِ الحياة ِ نبيٌّ وَهْوَ في شعبهِ مُصَابٌ بمسِّ
هكذا قال، ثمّ سَار إلى الغابِ ليَحْيا حياة شعرٍ وقُدْسِ
وبعيداً، هناك..، في معبد الغاب الذي لا يُظِلُّه أيُّ بُؤْسِ
في ظلال الصَّنوبرِ الحلوِ، والزّيتونِ يقْضي الحياة َ: حرْساً بحرْسِ
في الصَّباح الجميل، يشدو مع الطّير ويمْشي في نشوة ِ المنحسِّي
نافخاً نايَه، حوالْيه تهتزُّ ورودُ الرّبيع منْ كلِّ فنسِ
شَعْرُه مُرْسَلٌ- تداعُبه الرّيحُ على منكبْيه مثلَ الدُّمُقْسِ
والطُّيورُ الطِّرابُ تشدو حواليه وتلغو في الدَّوحِ، مِنْ كُلِّ جنسِ
وترا عند الأصيل، لدى الجدول يرنو للطَّائرِ المتحسِّي
أو يغنِّي بين الصَّنوبرِ، أو يرنو إلى سُدْفَة الظَّلامِ الممسّي
فإذا أقْبَلَ الظلامُ، وأمستْ ظلماتُ الوجودِ في الأرض تُغسي
كان في كوخه الجميل، مقيماً يَسْألُ الكونَ في خشوعٍ وَهَمْسِ
عن مصبِّ الحياة ِ، أينَ مَدَاهُ وصميمِ الوجودِ، أيَّان يُرسي
وأريجِ الوُرودِ في كلِّ وادٍ ونَشيدِ الطُّيورِ، حين تمسِّي
وهزيمِ الرِّياح، في كلِّ فَجٍّ وَرُسُومِ الحياة ِ من أمس أمسِ
وأغاني الرعاة ِ أين يُواريها سُكونُ الفَضا، وأيَّان تُمْسي
هكذا يَصْرِفُ الحياة َ، ويُفْني حَلَقات السنين: حَرسْاً بحرْسِ
يا لها من معيشة ٍ في صميم الغابِ تُضْحي بين الطيور وُتْمْسي
يا لها مِنْ معيشة ٍ، لم تُدَنّسْهَا نفوسُ الورى بخُبْثٍ ورِجْسِ
يا لها من معيشة ٍ، هيَ في الكون حياة ٌ غريبة ٌ، ذاتُ قُدسِ

الحُبُّ شُعْلَة ُ نُورٍ ساحرٍ، هَبَطَتْ

الحُبُّ شُعْلَة ُ نُورٍ ساحرٍ، هَبَطَتْ منَ السَّماءِ، فكانتْ ساطعَ الفَلَقِ
وَمَزّقتْ عَن جفونِ الدَّهْرِ أَغْشِيَة ً وعن وجوه الليالي بُرقُعَ الغسقِ
الحبُّ رُوحُ إلهيٌّ، مجنّحة ٌ أيامُه بضياء الفجر والشّفقِ
يطوفُ في هذهِ الدُّنيا، فَيَجْعَلُها نجْماً، جميلاً، ضحوكاً، جِدَّ مؤتلقِ
لولاهُ ما سُمِعتْ في الكون أغنية ٌ ولا تألف في الدنيا بَنْو أُفْقِ
الحبُّ جَدْولٌ خمرٍ، مَنْ تَذَوَّقَهُ خاضَ الجحيمَ، ولم يُشْفِق من الحرقِ
الحبُّ غاية ُ آمالِ الحياة ِ، فما خوْفِي إذا ضَمَّني قبرٌ؟ وما فَرَقِي؟

ضعفُ العزيمة ِ لَحْدٌ، في سكينَتهِ

ضعفُ العزيمة ِ لَحْدٌ، في سكينَتهِ تقْضِي الحياة ُ، بَنَاهُ اليأسُ والوجَلُ
وفِي العَزِيمَة ِ قُوَّاتٌ، مُسَخَّرَة ٌ يخِرّ دونَ مَداها اليأسُ والوجَلُ
والنّاسُ شَخْصان: ذا يسْعى به قَدَمٌ من القُنوطِ، وذا يسعَى به الأملُ
هذا إلى الموتِ، والأجداثُ ساخرة ٌ، وَذَا إلى المَجْدِ، والدُّنْيَا لَهُ خَوَلُ
ما كلُّ فعل يُجِلُّ النَّاسُ فَاعلَه مجداً، فإنَّ الورى في رأَيِهم خطَلُ
ففي التماجد تمويهٌ، وشعْوذَة ٌ، وَفِي الحَقِيقَة مَا لا يُدْرِكُ الدَّجِلُ
مَا المَجْدُ إلا ابتِسَامَاتٌ يَفِيضُ بها فمُ الزمانْ، إذا ما انسدَّتِ الحِيَلُ
وليسَ بالمَجدْ ما تشْقى الحياة ُ به فَيَحْسُدُ اليَوْمُ أمْساً، ضَمَّهُ الأَزَلُ
فما الحروبُ سوى وحْشيَّة ٍ، نهضَتْ في أنفُسِ النّاسِ فانقادَتْ لها الدّولُ
وأيقظتْ في قلوبِ النّاسِ عاصفة ً غامَ الوجودُ لها، واربْدَّت السُّبُلُ
فَالدَّهْرُ مُنْتَعِلٌ بالنَّارِ، مُلْتَحِفٌ بالهوْلِ، والويْلِ، والأيامُ تَشْتَعِلُ
وَالأَرْضُ دَامية ٌ، بالإثْمِ طَامِيَة ٌ، وَمَارِدُ الشَّرِّ في أَرْجَائِهَا ثَمِلُ
والموْتُ كالماردِ الجبَّارِ، منتصِبٌ فِي الأرضِ، يَخْطُفُ مَنْ قَدْ خَانَهُ الأَجَلْ
وَفِي المَهَامِهِ أشلاءٌ، مُمَزَّقَة ٌ تَتْلُو على القَفْرِ شِعْراً، لَيْسَ يُنْتَحَلُ

قَدَّس اللَّهُ ذِكْرَهُ مِن صَبَاحٍ

قَدَّس اللَّهُ ذِكْرَهُ مِن صَبَاحٍ سَاحِرٍ، في ظِلال غابٍ جميلِ
كان فيه النّسيم، يرقصُ سكراناً على الوردِ، والنّباتِ البَليلِ
وضَبابُ الجبالِ، يَنْسَابُ في رفقٍ بديعٍ، على مُروج السُّهولِ
وأغاني الرعاة ِ، تخفقُ في الأغوارِ والسّهلِ، والرّبا، والتّلولِ
ورحابُ الفضاءِ، تَعْبُقُ بالألحانِ والعطرِ، والذّياءِ الجميلِ
والمَلاَكُ الجميلُ، ما بين ريحانٍ وعُشْبٍ، وسِنديانٍ، ظَليلِ
يتغنَّى مع العَصَافيرِ، في الغاب ويرنو إلى الضَّباب الكَسُولِ
وشعورُ الملاك ترقصُ بالأزهار والضوءِ، والنَّسيمِ العَليل
حُلُمٌ ساحرٌ، به حَلُمَ الغابُ فَوَاهاً لِحُلْمِهِ المَعْسُولِ!
مثلُ رؤيا تلوحُ للشّاعر الفنَّان في نشوة ِ الخيال الجليلِ
قد تملَّيْتُ سِحرَهُ في أناة ٍ وحنانٍ، وَلَذَّة ٍ، وَذُهولِ
ثُمَّ ناديتُ، حينما طفحَ السِّحرُ بأرجاءِ قَلبي المبتولِ
يا شعورٌ تميد في الغَاب بالر يحانِ، والنّور، والنّسيم البليلِ
كَبَّليني بهاتِهِ الخِصَلِ المرخَاة ِ في فتنة ِ الدَّلال المَلُولِ
كبّلي يا سَلاسلَ الحبِّ أفكا ري، وأحلامَ قلبيَ الضَّلِّيلِ
كبِّليني بكل ما فيكِ من عِطْرٍ وسحرٍ مُقَدّسٍ، مَجْهولِ
كبِّليني، فإنَّما يُصْبِحُ الفنّان حرّاً في مثل هذي الكبولِ
ليت شعري! كَمْ بينَ أمواجِكِ السّو دِ، وطيّاتِ ليلِكِ المسدولِ
من غرامٍ، مُذَهَّبِ التاجِ، ميْتٍ وفؤادٍ، مصفَّدٍ، مغلولِ
وزهورٍ من الأمانيِّ تَذوِي في شُحُوبٍ، وخيبة ٍ، وخمولِ
أنتِ لا تعلمين..، واللَّيلُ لا يعلَمُ كم في ظلامِه من قَتيلِ
أنتِ أُرْجُوحَة ُ النسيمِ فميلي بالنسيمِ السعيدِ كِلَّ مَمِيلِ
ودَعي الشَّمسَ والسماءَ تُسَوِّي لكِ تاجاً، من الضياء الجميلِ
ودِعي مُزْهِرَ الغُصُونِ يُغَشِّيـ ـكِ بأوراقِ وَردِه المطلولِ
للشّعاع الجميلِ أنتِ، وللأنسا مِ، والزَّهر، فالعبي، وأطيلي
ودعي للشقيِّ أشواقَه الظمْأى وأَوهامَ ذِهْنه المعلولِ
يا عروسَ الجبالِ، يا وردة َ الآ مالِ، يا فتنة َ الوجودِ الجليل
ليتني كنتُ زهرة ً، تتثنَّى بين طيّات شَعْرِكِ المصقولِ!
أو فَراشاً، أحومُ حولكِ مسحوراً غريقاً، في نشوتي، وَذُهُولي!
أو غصوناً، أحنو عليكِ بأوراقي حُنُوَّ المُدَلَّهِ، المتْيولِ!
أو نسيماً، أضمُّ صدركِ في رِفقٍ، إلى صَدْرِيَ الخفوقِ، النَّحيلِ
آهِ! كم يُسْعِدُ الجمالُ، ويُشْقي

كل قلب حمل الخسف وما

كلُّ قلبٍ حملَ الخسفَ، وماملَّ من ذلِّ الحياة ِ الأرْذلِ
كُلُّ شَعْبٍ قَدْ طَغَتْ فِيهِ الدِّمَادونَ أن يثْأَرَ للحقّ الجلي
خَلِّهِ لِلْمَوْتِ يَطْوِيهِ فَمَاحظُّه غيرُ الفَناء الأنكلِ
أبيات شاعر تونس أبو القاسم الشابي

بيت بنته لي الحياة من الشذى

بيْتٌ، بَنَتْه ليَ الحياة ُ من الشذَى والظلّ، والأَضْواءِ، والأنغامِ
بيتٌ، من السِّحرِ الجميلِ، مشَيَدٌللحبِّ، والأحلامِ، والالهامِ
في الغابِ سِحْرٌ، رائعٌ متجدِّدٌباقٍ على الأَيامِ والأعْوامِ
وشذًى كأجنحة الملائكِ، غامضٌسَاهٍ يُرفرف في سُكونٍ سَامِ
وجداولٌ، تشْدو بمعسول الغِناوتسيرُ حالمة ً، بغيرِ نِظَامِ
ومخارفٌ نَسَجَ الزمانُ بساطَهامن يابسِ الأوراقِ والأكمامِ
وَحَنَا عليها الدّوّحُ، في جَبَرُوتِهِبالظلِّ، والأغصان والنسام
في الغاب، في تلك المخارف، والرُّبى وعلى التِّلاع الخُضرِ، والآجامِ
كم من مشاعرِ، حلْة ٍ، مجْهولة ٍسَكْرَى ، ومِنْ فِكَرٍ، ومن أوهامِ
غَنَّتْ كأسرابِ الطُّيورِ، ورفرفتحولي، وذابتْ كالدّخان، أمامي
ولَكَمْ أَصَخْتُ إلى أناشيد الأسىوتنهُّدِ الآلام والأسقامِ
وإلى الرياحِ النائحاتِ كأنّهافي الغاب تبكي ميِّت الأيَّامِ
وإلَى الشبابِ، مُغَنَّياً، مُتَرَنِّماًحوْلي بألحان الغَرامِ الظَّامي
وسمعتُ للطير، المغرِّد في الفضاوالسِّنديانِ، الشامخ، المتَسامي
وإلى أناشيد الرّعاة ِ، مُرِفَّة ًفي الغاب، شَادية ً كسِرْبِ يَمامِ
وإلى الصّدى ، المِمراح، يهتفُ راقصاًبين الفِجَاجِ الفيحِ والآكامِ
حتى غَدَا قلبي كنَايٍ، مُت}رَعثَمِلٍ من الألحان والنغامِ
فَشَدَوْتُ باللَّحنِ الغَريب مجنَّحاًبكآبة ِ الأحلامِ والآلامِ
في الغاب، دنيا للخيال، وللرُّؤى والشِّعرِ، والتفكيرِ، والأحلامِ
لله يومَ مضيتُ أوّلَ مرّة ٍللغابِ، أرزحُ تحت عبءِ سَقامي
ودخَلتُه وحدي، وحوْلي موكبٌهَزِجٌ، من الأحلامِ والأوهامِ
ومشيْتُ تحت ظِلاله مُتَهَيِّباًكالطفل، في صضمتٍ، وفي استسلامِ
أرنو إلى الأّدْوَاحِ، في جبروتهافإخَالُها عَمَدَ السَّماءِ، أمامي
قَد مسَّها سِحْرُ الحياة ، فأوْرَقَتْوتَمَايَلَتْ في جَنَّة ِ الأحلامِ
وأُصِيخُ للصّمتِ المفكّر، هاتِفاًفي مِسْمعي بغرائب الأنغامِ
فإذا أنا في نَشْوَة ٍ شعرّية ٍفَيَّاضة ٍ بالوحي والإلهامِ
ومشاعري في يقظة ٍ مسحورة ٍ…….
وَسْنَى كيقظة ِ آدَمٍ لمَّا سَرَىفي جسمه، رُوحُ الحياة ِ النّامي
وشَجَتْه مْوسيقى الوجودِ، وعانــقتُ أحلامَهُ، في رِقّة ٍ وسلامِ
ورأى الفَراديسَ، الأَنيقة َ، تنثنيفي مُتْرَفِ الأزهار والكمامِ
ورأى الملائكَ، كالأشعَّة في الفَضَاتنسابُ سابحة ً، بغير نظامِ
وأحسّ رُوحَ الكون تخفقُ حولهفي الظِّلِّ، والأضواءِ، والأنسامِ
والكائناتِ، تحوطُهُ بِحَنَانهاوبحبِّها، الرَّحْبِ، العميقِ، الطَّامي
حتى تملأَ بالحياة كِانُهوسَعى وراءَ مواكبِ الأيامِ
ولَرُبَّ صُبْحٍ غائمٍ، مُتَحجِّبٍفي كِلَّة ٍ من زَعْزَعٍ وغَمامِ
تتنفَّسُ الدُّنيا ضَباباً، هائماًمُتدفِّعاً في أفْقه المُترامي
والرِّيحُ تخفقُ في الفضاءِ، وفي الثَّرىوعلى الجبال الشُّمِّ، والآكام
باكَرْتُ فيه الغابَ، مَوْهُونَ القُوى َمتخاذِلَ الخُطُواتِ والأَقدامِ
وجلستُ تحتَ السّنديانة ِ، واجماًأرنو إلى الأفُق الكئيب، أمامي
فأرى المبانيَ في الضباب، كأنهافِكْرٌ، بأرضِ الشَّكِّ والإبهامِ
أو عَالَمٌ، ما زال يولَدُ في فضاالكونِ، بين غياهبٍ وسِدامِ
وأرى الفجاجَ الدامساتِ، خلالَهومشاهدَ الوديان والآجامَ
فكأنها شُعَبُ الجحيم،رهيبة ُملفوفَة في غُبشة ٍ وظَلامِ
صُوَرٌ، من الفنِّ المُرَوِّعِ، أعجزتوَحْيَ القريضِ وريشة َ الرسّامِ
وَلَكَمْ مَسَاءٍ، حَالمٍ متوَشِّحٍبالظّلِ، والضّوءِ الحزين الدامي
قدْ سِرْتُ في غابي، كَفِكرٍ، هَائمٍفي نشوة ِ الأحلام والإلهامِ
شَعَري، وأفكاري، وكُلُّ مشاعريمنشورة ٌ للنُّور والأنسام
والأفق يزخَرُ بالأشعَّة ِ والشَّذَىوالأرضُ بِالأعشابِ والأكمامِ
والغابُ ساجٍ، والحياة ُ مصيخة ٌوالأفقُ، والشفقُ الجميلُ، أمامي
وعروسُ أحلامي تُداعبُ عُودَهافيَرنُّ قلبي بالصَّدَى وعِظامي
روحٌ أنا، مَسْحُورة ٌ، في عَالمٍفوق الزمان الزّاخر الدَّوَّامِ
في الغابِ، في الغابِ الحبيبِ، وإنَّهحَرَمُ الطَّبيعة ِ والجمالِ السَّامي
طَهَّرْتُ فينار الجمال مشاعِريولقِيتُ في دنيا الخيال سَلامي
ونسيتُ دنيا النّاس، فهي سخافة ٌسَكْرَى من الأَوهامِ والآثامِ
وَقَبسْتُ من عَطْفِ الوجود وحُبِّهوجمالهِ قبساً، أضاءَ ظلامي
فرأيتُ ألوانَ الحياة ِ نضيرة ًكنضارة ِ الزّهرِ الجميلِ النّامي
ووجدتُ سحْرَ الكون أسمى عنصراًوأجلَّ من حزني ومن آلامي
فأهَبْتُ ـ مسحورَ المشاعر، حالماًنشوانَ ـ بالقلب الكئيب الدّامي
المعبدُ الحيُّ المقدَّسُ هاهنا‍يا كاهنَ الأحزان والآلامِ
فاخلعْ مُسُوحَ الحزنِ تحت ظِلالِهِوالبسْ رِدَاءَ الشِّعرِ والأَحلام
وارفعْ صَلاَتكَ للجمالِ، عَميقة ًمشبوبة ً بحرارة الإلهامِ
واصدحْ بألحان الحياة ، جميلة ًكجمال هذا العالم البسَّامِ
واخفقْ مع العِطْر المرفرفِ في الفضاوارقصْ مع الأضواء والأنسامِ
ومعَ الينابيعِ الطليقة ِ، والصَّدَى……
وَذَرَوْتُ أفكاري الحزِينة َ للدّجىونَثَرْتُها لِعَواصِفِ الأَيَّامِ
ومَضَيْتُ أشدُو للأشعَّة ِ ساحراًمن صوت أحزاني، وبطش سقامي
وهتفتُ: “ياروحَ الجمالِ‍ تدَفَّقِيكالنَّهرِ في فِكرِي، وفي أحْلامي
وتغلغلي كالنّور، في رُوحي التيذَبُلتْ من الأحزان والآلامِ
أنتِ الشعورُ الحيُّ يزخرُ دافقاًكالنّار، في روح الوجودِ النَّامي
ويصوغ أحلامَ الطبيعة ِ، فاجعــلي عُمري نشيداً، ساحِرَ الأتغامِ
وشذًى يَضُوعُ مع الأشعَّة ِ والرُّؤىفي معبد الحق الجليل السامي
شاعر الخضراء أبو القاسم الشابي