عِشْ بالشُّعورِ، وللشُّعورِ، فإنَّما | دنياكَ كونُ عواطفٍ وشعورِ |
شِيدَتْ على العطْفِ العميقِ، وإنّها | لتجفُّ لو شِيدتْ على التفكيرِ |
وَتَظَلُّ جَامِدَة الجمالِ، كئيبة ً | كالهيكلِ، المتهدِّم، المهجورِ |
وَتَظَلُّ قاسية َ الملامحِ، جهْمة ً | كالموتِ..، مُقْفِرة ً، بغير يرورِ |
لا الحبُّ يرقُصُ فوقها متغنِّياً | للنّاسِ، بين جَداولٍ وزهورِ |
مُتَوَرِّدَ الوَجناتِ سكرانَ الخطا | يهتزُّ من مَرَح، وفرْط حبورِ |
متكلِّلاً بالورْدِ، ينثرُ للورى | أوراقَ وردِ “اللَّذة ِ” المنضورِ |
كلاَّ! ولا الفنُّ الجميلُ بظاهرٍ | في الكون تحتَ غمامة ٍ من نورِ |
مَتَوشِّحاً بالسِّحر، ينفْخ نايَهُ | ـبوبَ بين خمائلٍ وغديرِ |
أو يلمسُ العودَ المقدّسَ، واصفاً | للموت، للأيام، للديجورِ |
ما في الحياة من المسرَّة ِ، والأسى | والسِّحْر، واللَّذاتِ، والتغريرِ |
أبَداً ولا الأملُ المُجَنَّحُ مُنْشِداً | فيها بصوتِ الحالم، المَحْبُورِ |
تلكَ الأناشيدُ التي تَهَبُ الورى | عزْمَ الشَّبابِ، وَغِبْطة العُصْفورِ |
واجعلْ شُعورَكَ، في الطَّبيعة قَائداً | فهو الخبيرُ بتِيهما المسْحورِ |
صَحِبَ الحياة َ صغيرة ً، ومشى بها | بين الجماجم، والدَّمِ المهدورِ |
وعَدَا بهَا فوقَ الشَّواهِق، باسماً | متغنِّياً، مِنْ أعْصُرِ وَدُهورِ |
والعقلُ، رغْمَ مشيبهِ ووقَاره، | ما زالَ في الأيّامِ جِدَّ صغيرِ |
يمشي..، فتصرعه الرياحُ..، فَيَنْثَنِي | مُتوجِّعاً، كالطّائر المكسورِ |
ويظلُّ يَسْألُ نفسه، متفلسفاً | متَنَطِّساً، في خفَّة ٍ وغُرورِ: |
عمَّا تُحَجِّبُهُ الكواكبُ خلفَها | مِنْ سِرِّ هذا العالَم المستورِ |
وهو المهشَّمُ بالعواصفِ.. يا لهُ | من ساذجٍ متفلسفٍ، مغرور! |
وافتحْ فؤادكَ للوجود، وخلَّه | لليمِّ للأمواج، للدّيجورِ |
للثَّلج تنثُرُهُ الزوابعُ، للأسى | للهَوْلِ، للآلامِ، للمقدورِ |
واتركْه يقتحِمُ العواصفَ..، هائماً | في أفقِها، المتلبّدِ، المقرورِ |
ويخوضُ أحشاءَ الوجود..، مُغامِراً | في ليْلِها، المتَهَّيبِ، المحذورِ |
حتَّى تعانقَه الحياة ُ، ويرتوي | من ثغْرِها المتأجِّجِ، المسجورِ |
فتعيشَ في الدنيا بقلبٍ زاجرٍ | يقظِ المشاعرِ، حالمٍ، مسحورِ |
في نشوة ٍ، صُوفيَّة ٍ، قُدسية ٍ، | هيَ خيرُ ما في العالمِ المنظورِ |
شاعر تونس
هو الشاعرالكبير أبو القاسم الشابي ويلقب كذلك بشاعر الخضراء.
يا موتُ! قد مزَّقتَ صدري وقصمْتَ بالأرزاءِ ظَهْري
يا موتُ! قد مزَّقتَ صدري وقصمْتَ بالأرزاءِ ظَهْري | وَقَصَمْت بالأرزَاءِ ظَهْرِي |
ورميْتَني من حَالقٍ وسخرتَ منِّي أيَّ سُخْرِ | |
فَلَبِثْتُ مرضوضَ الفؤادِ أَجُرُّ أجنحتي بِذُعْرِ… | |
وَقَسَوْتَ إذ أبقيتني في الكَوْن أذْرَعُ كُلَّ وَعْرِ | |
وفجعتني فيمَن أحبُّ ومنْ إليه أبُثُّ سرّي | |
وَأَعُدُّهُ، فَجْرِي الجميلَ، إذا کدْلَهَمَّ عليَّ دَهْرِي |
الأمُّ تلثُمُ طفلَها، وتضـمُّه
الأمُّ تلثُمُ طفلَها، وتضـمُّه | حرَمٌ، سماويُّ الجمالِ، مقدَّسُ |
تتألّه الأفكارُ، وهْي جوارَه | وتعودُ طاهرة ً هناكَ الأنفُسُ |
حَرَمُ الحياة ِ بِطُهْرِها وَحَنَانِها | هل فوقَهُ حرَمٌ أجلُّ وأقدسُ؟ |
بوركتَ يا حرَمَ الأمومة ِ والصِّبا | كم فيك تكتمل الحياة ُ وتقدُسُ |
يَنْقَضِي العَيْشُ بَيْنَ شَوْقٍ وَيَأْسِ
يَنْقَضِي العَيْشُ بَيْنَ شَوْقٍ وَيَأْسِ | والمُنَى بَيْنَ لَوْعة ٍ وَتَأَسِّ |
هذه سُنَّة ُ الحياة ، ونفسي | لا تَوَدُّ الرَّحيقَ فِي كَأْسِ رِجْسِ |
مُلِىء الدهر بالخداعِ، فكم قد | ضلَّلَ الناسَ من إمام وقَسِّ |
كلَّما أَسْأَلُ الحياة َ عَنِ الحقِّ | تكُفُّ الحياة ُ عن كل هَمْسِ |
لمْ أجِدْ في الحياة ِ لحناً بديعاً | يَسْتَبِيني سِوى سَكِينَة ِ نَفْسي |
فَسَئِمْتُ الحياة َ، إلا غِرَاراً | تتلاشى بِهِ أَناشِيدُ يَأْسِي |
ناولتني الحياة ُ كأساً دِهاقاً | بالأماني، فما تناولْتُ كأسِي |
وسقتْني من التعاسَة أكواباً | تجرعْتُها، فيأشدّ تُعْسي |
إنّ في روضة ِ الحياة ِ لأشواكاً | بها مُزِّقتْ زَنابِقُ نفسي |
ضَاعَ أمسي! وأينَ مِنِّي أَمْسِي؟ | وقضى الدهرُ أن أعيش بيأسي |
وقضى الحبُّ في سكون مريعٍ | سَاعَة َ الموتِ بين سُخْط وَبُؤْسِ |
لم تُخَلِّفْ ليَ الحياة من الأمس | سِوَى لَوْعَة ٍ، تَهُبُّ وَتُرسي |
تتهادى ما بين غصّات قلبي | بِسُكونٍ وبين أوجاعِ نَفْسي |
كخيال من عالم الموْت، ينْساب | بِصَمْتٍ ما بينَ رَمْسٍ وَرَمْسِ |
تلك أوجاعُ مهجة ٍ، عذَّبتْها | في جحيم الحياة أطيافُ نحسِ |
عجباً لي! أودُّ أن أَفْهَمَ الكونَ،
عجباً لي! أودُّ أن أَفْهَمَ الكونَ، | ونفسي لَمْ تستطعْ فَهْمَ نفسِي! |
لم أُفِدْ مِنْ حَقائِقِ الكونِ إلاّ | أنني في الوجُود مُرْتَادُ رمسِ |
كلُّ دهر يمُرُّ يفجعُ قلبي | ليتَ شعري أينَ الزَّمان المؤسي |
في ظلام الكُهوفِ أشباحُ شؤمٍ | وبهذا الفَضَاءِ أطيافُ نَحْسِ |
وَخِلالَ القُصور أنّاتُ حُزْنٍ | وَبتلكَ الأكواخ أَنْضَاءُ بؤسِ! |
والقَضَاءُ الأَصَمُّ يَعْتَسِفُ ال | نّاس ويقضي ما بين سَيْفٍ وَقَوْسِ! |
هذه صورة ُ الحـيـاة ِ؛ وهذا | لونُها في الوجود، من أمسِ أمسِ |
صُورة ٌ للشَّقَاءِ دَامِعَة ُ الطَّرْفِ | ولونٌ يَسُودُ في كلِّ طَرْسِ |
النبي المجهول
أيْها الشعبُ ليتني كنتُ حطَّاباً | فأهوي على الجذوعِ بفأسي |
ليتَني كنتُ كالسيّولِ، إذا ما سالَتْ | تهدُّ القبورَ: رمْساً برمٍسِ |
ليتَني كنتُ كالريّاح، فأطوي | ورودُ الرَّبيع مِنْ كلِّ قنْس |
ليتني كنتُ كالسّتاء، أُغَشِّي | كل ما أَذْبَلَ الخريفُ بقرسي |
ليتَ لي قوَّة َ العواصفِ، يا شعبي | فأُلقي إليكَ ثَوْرة َ نفسي |
ليت لي قوة َ الأعاصيرِ إن ضجَّتْ | فأدعوكَ للحياة ِ بنبسي |
ليت لي قوة َ الأعاصيرِ لكْ | أنتَ حيٌّ، يقضي الحياة برمسِ |
أنتَ روحٌ غَبِيَّة ٌ، تكره النّور | وتقضي الدهور في ليل مَلْس |
أنتَ لا تدركُ الحقائقَ إن طافتْ | حواليكَ دون مسّ وجسِ |
في صباح الحياة ِ صَمَّخْتُ أكوابي | وأترعتُها بخمرة ِ نفسي |
ثُمَّ قدَمْتُها إليكَ، فأهرقْتَ | رحيقي، ودُستَ يا شعبُ كأسي |
فتألَّمت..، ثًمَّ أسكتُّ آلامي | وكفكفتُ من شعوري وحسّي |
ثُم نَضَّدْتُ من أزاهيرِ قلبي | باقة ً، لمْ يَمَسَّها أيُّ إِنْسِي |
ثم قدّمْتُها إليكَ، فَمزَّقْتَ | ورودي، ودُستَها أيَّ دوسِ |
ثم ألبَسْتَني مِنَ الحُزْنِ ثوباً | وبشوْك الجِبال توَّجتَ رأسي |
إنني ذاهبٌ إلى الغابِ، ياشَعْبي | لأقضي الحياة َ، وحدي، بيأسي |
إنني ذاهبٌ إلى الغابِ، علَّي | في صميم الغابات أدفنُ بؤسي |
ثُمَّ أنْسَاكَ ما استطعتُ، فما أنت | بأهْلِ لخمرتي ولكَأسي |
سوف أتلو على الطُّيور أناشيدي | وأُفضي لها بأشواق نَفْسي |
فَهْي تدري معنى الحياة ، وتدري | أنّ مجدَ النُّفوسِ يَقْظَة ُ حِسِّ |
ثم أقْضي هناك، في ظلمة الليل | وأُلقي إلى الوجود بيأسي |
ثم تَحْتَ الصَّنَوْبَر، النَّاضر، الحلو | تَخُطُّ السُّيولُ حُفرة َ رمسي |
وتظَلُّ الطيورُ تلغو على قبْرِي | ويشدو النَّسيمُ فوقي بهمس |
وتظَلُّ الفصولُ تمْشي حواليَّ | كما كُنَّ في غَضارَة أمْسي |
أيّها الشّعبُ! أنتَ طفلٌ صغيرٌ | لاعبٌ بالتُّرابِ والليلُ مُغْسِ |
أنتَ في الكَوْنِ قوَّة ٌ، لم تَنسْسها | فكرة ٌ، عبقريَّة ٌ، ذاتُ بأسِ |
أنتَ في الكَوْنِ قوة ٌ،كبَّلتْها | ظُلُمَاتُ العُصور، مِنْ أمس أمسِ |
والشقيُّ الشقيُّ من كان مثلي | في حَسَاسِيَّتي، ورقَّة ِ نفسي |
هكذا قال شاعرٌ، ناولَ النَّاسَ | رحيقَ الحياة ِ في خير كأسِ |
فأشاحُوا عنْها، ومرُّوا غِضابا | واستخفُّوا به، وقالوا بيأس |
“قد أضاعَ الرشّادُ في ملعب الجِنّ | فيا بؤسهُ، أصيب بمسّ |
طالما خاطبَ العواصفَ في الليلِ | ويَمْشي في نشوة ِ المُتَحَسِّي |
طالما رافقَ الظلامَ إلى الغابِ | ونادى الأرواحَ مِن كلِّ جِنْس |
طالما حدَّثَ الشياطينَ في الوادي | وغنّى مع الرِّياح بجَرسِ |
إنه ساحرٌ، تعلِّمُه السحرَ | الشياطينُ، كلَّ مطلع شمسْ |
فکبعِدوا الكافرَ الخبيثَ عن الهيكلِ | إنّ الخَبيثَ منبعُ رِجْسِ |
«أطردوه، ولا تُصيخوا إليه | فهو روحٌ شريِّرة ٌ، ذات نحْسِ |
هَكَذا قَال شاعرٌ، فيلسوفٌ | عاشَ في شعبه الغبيِّ بتَعْسِ |
جَهِلَ الناسُ روحَه، وأغانيها | فساموُا شعورَه سومَ بخْسِ |
فَهْوَ في مَذهبِ الحياة ِ نبيٌّ | وَهْوَ في شعبهِ مُصَابٌ بمسِّ |
هكذا قال، ثمّ سَار إلى الغابِ | ليَحْيا حياة شعرٍ وقُدْسِ |
وبعيداً، هناك..، في معبد الغاب | الذي لا يُظِلُّه أيُّ بُؤْسِ |
في ظلال الصَّنوبرِ الحلوِ، والزّيتونِ | يقْضي الحياة َ: حرْساً بحرْسِ |
في الصَّباح الجميل، يشدو مع الطّير | ويمْشي في نشوة ِ المنحسِّي |
نافخاً نايَه، حوالْيه تهتزُّ | ورودُ الرّبيع منْ كلِّ فنسِ |
شَعْرُه مُرْسَلٌ- تداعُبه الرّيحُ | على منكبْيه مثلَ الدُّمُقْسِ |
والطُّيورُ الطِّرابُ تشدو حواليه | وتلغو في الدَّوحِ، مِنْ كُلِّ جنسِ |
وترا عند الأصيل، لدى الجدول | يرنو للطَّائرِ المتحسِّي |
أو يغنِّي بين الصَّنوبرِ، أو يرنو | إلى سُدْفَة الظَّلامِ الممسّي |
فإذا أقْبَلَ الظلامُ، وأمستْ | ظلماتُ الوجودِ في الأرض تُغسي |
كان في كوخه الجميل، مقيماً | يَسْألُ الكونَ في خشوعٍ وَهَمْسِ |
عن مصبِّ الحياة ِ، أينَ مَدَاهُ | وصميمِ الوجودِ، أيَّان يُرسي |
وأريجِ الوُرودِ في كلِّ وادٍ | ونَشيدِ الطُّيورِ، حين تمسِّي |
وهزيمِ الرِّياح، في كلِّ فَجٍّ | وَرُسُومِ الحياة ِ من أمس أمسِ |
وأغاني الرعاة ِ أين يُواريها | سُكونُ الفَضا، وأيَّان تُمْسي |
هكذا يَصْرِفُ الحياة َ، ويُفْني | حَلَقات السنين: حَرسْاً بحرْسِ |
يا لها من معيشة ٍ في صميم الغابِ | تُضْحي بين الطيور وُتْمْسي |
يا لها مِنْ معيشة ٍ، لم تُدَنّسْهَا | نفوسُ الورى بخُبْثٍ ورِجْسِ |
يا لها من معيشة ٍ، هيَ في الكون | حياة ٌ غريبة ٌ، ذاتُ قُدسِ |