في جبالِ الهمومِ أنْبتُّ أغصاني – فَرَفتْ بين الصخور بِجُهْدِ |
وتَغَشَّانيَ الضَبابُ فأورقتُ – وأزْهَرتُ للعَواصفِ وَحْدي |
وتمايلتُ في الظَّلامِ وعَطّرتُ – فَضاءَ الأسى بأنفاسِ وَردي |
وبمجدِ الحياةِ والشوقِ غنَّيْتُ – فلم تفهمِ الأعاصيرُ قَصْدي |
ورَمَتْ للوهادِ أفنانيَ الخضْرَ – وظلّتْ في الثَّلْجِ تحفر لَحْدي |
ومَضتْ بالشَّذى فَقُلتُ ستبني – في مروجِ السَّماءِ بالعِطر مَجْدي |
وتَغَزلْتُ بالرَّبيعِ وبالفجرِ – فماذا ستفعلُ الرّيحُ بعدي |
شاعر تونس
هو الشاعرالكبير أبو القاسم الشابي ويلقب كذلك بشاعر الخضراء.
رفرفت في دجية الليل الحزين
رَفْرَفَتْ في دُجْيَةِ اللَّيْلِ الحَزينْ – زُمرةُ الأَحْلامْ |
فَوْقَ سِرْبٍ من غَمَاماتِ الشُّجُونْ – مِلْؤُها الآلامْ |
شَخَصَتْ لمَّا رَأَتْ عَيْنُ النُّجُومْ – بَعْثَةَ العُشَّاقْ |
وَرَمَتْها مِنْ سَمَاها بِرُجُومْ – تَسْكُبُ الأَحْراقْ |
كنتُ إذْ ذاكَ على ثَوْبِ السُّكُون – أَنْثُرُ الأَحْزانْ |
والهَوَى يَسْكُبُ أَصْداءَ المَنُونْ – في فُؤادٍ فَانْ |
سَاكِتاً مِثْلَ جَميعِ الكَائِناتْ – رَاكِدَ الأَلْحانْ |
هائِمٌ قَلْبي بأَعْماقِ الحَيَاةْ – تَائِهٌ حَيْرانْ |
إنَّ للحُبِّ على النَّاسِ يَدا – تَقْصِفُ الأَعْمارْ |
وَلَهُ فَجْرٌ على طُولِ المدى – سَاطِعُ الأَنْوارْ |
ثَوْرَةُ الشَّرِّ وأَحْلامُ السَّلامْ – وجَمالُ النُّورْ |
وابتسامُ الفَجْرِ في حُزْنِ الظَّلامْ – في العُيونِ الحُورْ |
أدركت فجر الحياة أعمى
أَدركتَ فَجْرَ الحَيَاةِ أَعمًى – وكنتَ لا تَعْرِفُ الظَّلامْ |
فأَطْبَقَتْ حَوْلَكَ الدَّياجِي – وغامَ مِنْ فوْقِكَ الغَمَامْ |
وعِشْتَ في وَحْشَةٍ تُقاسي – خواطراً كلّها ضرامْ |
وغُرْبَة مَا بِها رَفيقٌ – وظلمةٍ مَا لها خِتامْ |
تشقُّ تِيهَ الوُجُودِ فرداً – قَدْ عضَّكَ الفَقْرُ والسُّقَامْ |
وطارَدَتْ نَفْسَكَ المآسي – وفَرَّ مِنْ قَلْبِكَ السَّلامْ |
هوِّنْ على قلبك المعنَّى – إنْ كُنْتَ لا تُبْصِرُ النُّجُومْ |
ولا ترى الغابَ وهو يلغو – وفوقه تَخْطُرُ الغُيومْ |
ولا ترى الجَدْوَلَ المغنِّي – وحَوْلَهُ يَرْقُصُ الغيمْ |
فكلُّنا بائسٌ جديرٌ – برأْفَةِ الخَالقِ العَظيمْ |
وكلُّنا في الحَيَاةِ أعمى – يَسُوقهُ زَعْزَعٌ عَقِيمْ |
وحوله تَزْعَقُ المنايا – كأنَّها جنَّةُ الجَحِيمْ |
يا صاحِ إنَّ الحَيَاة قفرٌ – مروِّعٌ ماؤهُ سَرَابْ |
لا يجتني الطَّرْفُ منه إلاَّ – عَواطفَ الشَّوْكِ والتُّرابْ |
وأَسعدُ النَّاس فيه أَعمى – لا يُبْصِرُ الهول والمُصَابْ |
ولا يرى أَنْفُسَ البرايا – تَذُوبُ في وقْدَةِ العَذَابْ |
فاحمد إِلهَ الحَيَاةِ واقنعْ – فيها بأَلْحانِكَ العِذَابْ |
وعِشْ كما شاءَتِ اللَّيالي – مِنْ آهَةِ النَّايِ والرَّبَابْ |
يا أيها الغاب المنم
يا أَيُّها الغابُ المُنَمْ – مَقُ بالأَشعَّةِ والوردْ |
يا أَيُّها النُّورُ النَّقِيٌّ – وأيُّها الفجرُ البعيدْ |
أين اختفيتَ وما الَّذي – أَقْصاكَ عن هذا الوُجُودْ |
آهٍ لقدْ كانتْ حَياتي – فيكَ حالمةً تَمِيدْ |
بَيْنَ الخَمائِلِ والجَداوِلِ – والتَّرنُّمِ والنَّشيدْ |
تُصغي لنجواكَ الجميلَةِ – وهي أُغنِيَةُ الخٌلودْ |
وتعيشُ في كونٍ من – الغَفَلاتِ فتَّانٍ سَعيدْ |
آهٍ لقدْ غنَّى الصَّباحُ – فدَمْدَمَ اللَّيلُ العَتيدْ |
وتأَلَّقَ النَّجمُ الوضِيءُ – فأَعْتَمَ الغيمُ الرَّكُودْ |
ومضَى الرَّدى بسَعَادتي – وقضى على الحُبِّ الوَليدْ |
يا أيها السادر في غيه
يا أيها السَّادرُ في غَيِّهِ – يا واقِفاً فَوْقَ حُطَامِ الجِباهْ |
مهلاً ففي أَنَّاتِ من دُسْتَهُمْ – صوتٌ رهيبٌ سوفَ يَدْوِي صَدَاهْ |
لا تأمَنَنَّ الدَّهْرَ إمَّا غَفَا – في كهفِهِ الدَّاجي وطالتْ رُؤَاهْ |
فإنْ قَضَى اليومُ وما قَبْلَهُ – ففي الغدِ الحيِّ صَبَاحُ الحَياهْ |
يا أَيُّها الجبَّارُ لا تزدري – فالحقُّ جبَّارٌ طويلُ الأَنَاهْ |
يَغْفَى وفي أَجْفَانِهِ يقْظَةٌ – ترنو إلى الفَجْرِ الَّذي لا تَرَاهْ |
يا أيها الشادي المغرد ههنا
يا أَيُّها الشَّادي المغرِّدُ ههُنا – ثَمِلاً بِغِبْطةِ قَلْبهِ المَسْرورِ |
مُتَنقِّلاُ بَيْنَ الخَمائلِ تالِياً – وَحْيَ الرَّبيعِ السَّاحرِ المَسْحورِ |
غَرِّدْ ففي تِلْكَ السُّهولِ زَنابِقُ – تَرْنو إليكَ بِناظرٍ مَنْظورِ |
غَرِّدْ فَفي قَلبي إليكَ مَوَدَّةٌ – لَكِنْ مَوَدَّةُ طائرٍ مَأسورِ |
هَجَرَتْهُ أسْرابُ الحمائمِ وانْبَرَتْ – لِعَذابِهِ جنِّيةُ الدَّيْجورِ |
غَرِّدْ ولا تُرْهِبْ يميني إنَّني – مِثْلُ الطُّيورِ بمُهْجَتي وضَميري |
لكنْ لَقَدْ هاضَ التُّرابُ مَلامعي – فَلَبِثْتُ مِثلَ البُلبلِ المَكْسورِ |
أشدُو برنّاتِ النِّياحَةِ والأسى – مشبوبةً بعواطفي وشُعوري |
غرِّدْ ولا تَحْفَل بقلبي إنَّهُ – كالمِعْزَفِ المُتَحَطِّمِ المَهْجورِ |
رتِّل على سَمْع الرَّبيعِ نشيدَهُ – واصْدَحْ بفيْضِ فؤادك المَسْجورِ |
وانْشِدْ أناشيدَ الجَمال فإنَّها – روحُ الوُجودِ وسَلْوَةُ المَقْهورِ |
أنا طائرٌ مُتَغرِّدٌ مُتَرنِّمٌ – لكِنْ بصوتِ كآبتي وزَفيري |
يَهْتاجُني صوتُ الطُّيورِ لأنَّه – مُتدفِّقُ بِحَرارةٍ وطَهورِ |
مَا في وجود النَّاسِ من شيءٍ به – يَرضَى فؤادي أو يُسَرُّ ضَميري |
فإذا استَمَعْتُ حديثهم ألْفَيْتُهُ – غَثًّا يَفيض بِركَّةٍ وفُتورِ |
وإذا حَضَرْتُ جُموعَهُمْ ألْفَيْتَني – مَا بينهمْ كالبُلبلِ المأسورِ |
متوحِّداً بِعَواطفي ومَشاعِري – وخَواطري وكَآبَتي وسُروري |
يَنتابُني حَرَجُ الحياةِ كأنَّني – مِنهمْ بِوَهْدَة جَنْدَلٍ وصُخورِ |
فإذا سَكَتُّ تضجَّروا وإذا نَطَقْتُ – تذمَّروا من فكْرَتي وشُعوري |
آهٍ منَ النَّاسِ الذين بَلَوْتُهُمْ – فَقَلَوْتُهُمْ في وحشتي وحُبوري |
مَا منهُمُ إلاَّ خَبيثٌ غادِرٌ – متربِّصٌ بالنَّاسِ شَرَّ مَصيرِ |
ويَودُّ له مَلَكَ الوُجودَ بأسره – ورمى الوَرَى في جاحِمٍ مَسْجورِ |
لِيَبُلَّ غُلَّتَهُ التي لا ترتوي – ويَكُضَّ تُهْمَةَ قلبهِ المَغْفورِ |
وإذا دخلتُ إلى البلادِ فإنَّ أَفكاري – تُرَفْرِفُ في سُفوحِ الطُّورِ |
حيثُ الطَّبيعَةُ حُلوةٌ فتَّانَةٌ – تختال بَيْنَ تَبَرُّجٍ وسُفُورِ |
مَاذا أَوَدُّ مِنَ المدينَةِ وهي غارقةٌ – بموَّارِ الدَّمِ المَهدورِ |
مَاذا أَوَدُّ مِنَ المدينَةِ وهي لا – ترثي لصوتِ تَفجُّع المَوْتُورِ |
مَاذا أَوَدُّ مِنَ المدينَةِ وهي لا – تَعْنو لغَير الظَّالمِ الشَّرِّيرِ |
مَاذا أَوَدُّ مِنَ المدينَةِ وهي مُرتادٌ – لكلِّ دَعَارَةٍ وفُجُورِ |
يا أَيُّها الشَّادي المغرِّدُ ههنا – ثَمِلاً بغبطة قَلْبِهِ المسرورِ |
قبِّل أَزاهيرَ الرَّبيعِ وغنِّها – رَنَمَ الصَّباحِ الضَّاحِك المحبورِ |
واشرب مِنَ النَّبْعِ الجميل الملتوي – مَا بَيْنَ دَوْحِ صَنَوبَرٍ وغَديرِ |
واتْرُكْ دموعَ الفجرِ في أَوراقِها – حتَّى تُرشِّفَهَا عَرُوسُ النُّورِ |
فَلَرُبَّما كانتْ أَنيناً صاعداً – في اللَّيلِ مِنْ متوجِّعٍ مَقْهُورِ |
ذَرَفَتْهُ أَجفانُ الصَّباحِ مدامعاً – أَلاَّقَةً في دَوْحةٍ وزُهورِ |