فلسفة الثعبان المقدس

كانَ الربيعُ الحُيُّ روحاً، حالماً غضَّ الشَّبابِ، مُعَطَّرَ الجلبابِ
يمشي على الدنيا، بفكرة شاعرٍ ويطوفها، في موكبٍ خلاَّبِ
والأُفقُ يملأه الحنانُ، كأنه قلبُ الوجود المنتِجِ الوهابِ
والكون من طهرِ الحياة كأنما هُوَ معبدٌ، والغابُ كالمحرابِ
والشّاعرُ الشَّحْرورُ يَرْقُصُ، مُنشداً للشمس، فوقَ الوردِ والأعشابِ
شعْرَ السَّعادة والسَّلامِ، ونفسهُ سَكْرَى بسِحْر العالَم الخلاّبِ
ورآه ثعبانُ الجبالِ، فغمَّه ما فيه من مَرَحٍ، وفيْضِ شبابِ
وانقضّ، مضْطَغِناً عليه، كأنَّه سَوْطُ القضاءِ، ولعنة ُ الأربابِ
بُغتَ الشقيُّ، فصاح من هول القضا متلفِّتاً للصائل المُنتابِ
وتَدَفَّق المسكين يصرخُ ثائراً: «ماذا جنيتُ أنا فَحُقَّ عِقابي؟»
لاشيءِ، إلا أنني متغزلٌ بالكائنات، مغرِّدٌ في غابي
«أَلْقَى من الدّنيا حناناً طاهراً وأَبُثُّها نَجْوَى المحبِّ الصّابي»
«أَيُعَدُّ هذا في الوجود جريمة ً؟! أينَ العدالة ُ يا رفاقَ شبابي؟»
«لا أين؟، فالشَّرْعُ المقدّسُ ههنا رأيُ القويِّ، وفكرة ُ الغَلاّبِ!»
«وَسَعَادة ُ الضَّعفاءِ جُرْمُ..، ما لَهُ عند القويِّ سوى أشدِّ عِقَاب!»
ولتشهد- الدنيا التي غَنَّيْتَها حُلْمَ الشَّبابِ، وَرَوعة َ الإعجابِ
«أنَّ السَّلاَمَ حَقِيقة ٌ، مَكْذُوبة ٌ والعَدْلَ فَلْسَفَة ُ اللّهيبِ الخابي»
«لا عَدْلَ، إلا إنْ تعَادَلَتِ القوَى وتَصَادَمَ الإرهابُ بالإرهاب»
فتَبَسَّمّ الثعبانُ بسمة َ هازئٍ وأجاب في سَمْتٍ، وفرطِ كِذَابِ:
«يا أيُّها الغِرُّ المثرثِرُ، إنَّني أرثِي لثورة ِ جَهْلكَ الثلاّبِ»
والغِرُّ بعذره الحكيمُ إذا طغى جهلُ الصَّبا في قلبه الوثّابِ
فاكبح عواطفكَ الجوامحَ، إنها شَرَدَتْ بلُبِّكَ، واستمعْ لخطابي»
أنِّي إلهٌ، طاَلَما عَبَدَ الورى ظلِّي، وخافوا لعنَتي وعقابي»
وتقدَّوموا لِي بالضحايا منهمُ فَرحينَ، شأنَ العَابدِ الأوّابِ»
«وَسَعَادة ُ النَّفسِ التَّقيَّة أنّها يوماً تكونُ ضحيَّة َ الأَربابِ»
«فتصيرُ في رُوح الألوهة بضعة ً، قُدُسية ٌ، خلصت من الأَوشابِ
أفلا يسرُّكَ أن تكون ضحيَّتي فتحُلَّ في لحمي وفي أعصابي»
وتكون عزماً في دمي، وتوهَّجاً في ناظريَّ، وحدَّة ً في نابي
«وتذوبَ في رُوحِي التي لا تنتهي وتصيرَ بَعََض ألوهتي وشبابي..؟
إني أردتُ لك الخلودَ، مؤلَّهاً في روحي الباقي على الأحقابِ..
فَكِّرْ، لتدركَ ما أريدُ، وإنّه أسمى من العيش القَصيرِ النَّابي»
فأجابه الشحرورُ ، في غُصًَِ الرَّدى والموتُ يخنقه: «إليكَ جوابي»:
لا رأي للحقِّ الضعيف، ولا صدّى ، الرَّأيُ، رأيُ القاهر الغلاّبِ
«فافعلْ مشيئَتكَ التي قد شئتَها وارحم جلالَكَ من سماع خطابي”
وكذاك تتَّخَذُ المَظَالمُ منطقاً عذباً لتخفي سَوءَة َ الآرابِ

إني ارى فأرى جموعا جمة

إني أرى َ..، فَأرَى جُمُوعاً جَمَّة ً لكنّها تحيا بِلاَ ألْبابِ
يَدْوِي حوالَيْها الزَّمانُ، كأنَّما يدوي حوالَي جندلٍ وترابِ
وإذا استجَابُوا للزمانِ تَنَاكروا وَتَرَاشَقُوا بالشَّوكِ والأحْصَابِ
وقضَوا على رُوح الأخوَّة ِ بينهم جَهلاً وعاشُوا عِيشة َ الأَغرابِ
فرِحتْ بهم غولُ التّعاسة ِ والفَنَا وَمَطَامِعُ السّلاَّب والغَلاّبِ
لُعَبٌ، تُحرِّكُها المَطامعُ، واللّهى وصَغائِرُ الأحقادِ والآرابِ
وأرى نفوساً، مِنْ دُخانٍ، جامدٍ مَيْتٍ، كأشباحٍ، وراءَ ضَبَابِ
مَوتى ، نَسُوا شَوقَ الحياة ِ وعزمَها وتحرَّكوا كتحرُّكِ الأنصابِ
وخبَا بهمْ لَهَبُ الوجودِ، فما بقُوا إلاَّ كمحترِقٍ من الأخشابِ
لا قلبَ يقتحمُ الحياة َ، ولا حِجَى ً يسمُو سُمُوَّ الطَّائر الجوَّابِ
بلْ في الترابِ المَيتِ، في حَزن الثَّرى تنمو مَشَاعِرُهُمْ مع الأَعشابِ
وتموتُ خاملة ً، كَزَهرٍ بائسٍ ينمو ويذبُل في ظَلامِ الغَابِ
أبداً تُحدِّقُ في التراب..، ولا تَرَى نورَ السماءِ..، فروحُها كتُرابِ..!
الشَّاعرُ الموهوبُ يَهْرِق فنَّه هدراً على الأَقْدامِ والأَعْتابِ
ويعيشُ في كونٍ، عقيمٍ، ميِّتٍ قَدْ شيَّدتْهُ غباوة ُ الأَحقَابِ
والعاِلِمُ النِّحريرُ يُنفقُ عُمره في فهمِ ألفاظٍ، ودرسِ كتابِ
يَحيا على رِمَمِ القديم المُجتَوَى كالدُّود في حِمَمِ الرَّماد الخابي
والشَّعبُ بينهما قطيعٌ، ضَائعٌ دُنياه دنيا مأكلٍ وشرابِ
الوَيلُ للحسَّاسِ في دُنياهمُ ماذا يُلاقي من أَسَى ّ وعَذِابِ!

أيها الليل يا أبا البؤس والهول

أيُّها الليلُ! يا أَبَا البؤسِ والهَوْ لِ،! ياهيكلَ الحَياة ِ الرَّهيبِ!
فِيكَ تَجْثُو عرائسُ الأَمَلِ العذْ بِ، تُصلَّي بصَوتِها المحبوبَ
فَيُثيرُ النَّشِيدُ ذكرى حياة ٍ حَجَبَتها غيومُ دَهر كَئيبِ
وَتَرُفُّ الشُّجونُ مِنْ حول قلبي بسُكُونٍ، وَهَيْبَة ٍ، وَقُطُوبِ
أنتَ ياليلُ! ذرَّة ٌ، صعدت للكونِ، من موطئ الجحيمِ الغَضوبِ
أيُّها الليلُ! أنت نَغْمٌ شَجِيُّ في شفاهِ الدُّهورِ، بين النَّحيبِ
إنَّ أُنشودة السُّكُونِ، التي ترتجّ في صدرك الرّكود، الرحيب
تُسْمِعُ النَّفْسَ، في هدوء الأماني رنة َ الحقَّ، والجمال الخلوبِ
فَتَصوغُ القلوبُ، منها أَغَارِيداً، تَهُزُّ الحياة َ هَزَّ الخُطُوبِ
تتلوّى الحياة ُ، مِنْ أَلَم البؤْ س فتبكي، بلوعة ونحيبِ
وَعَلى مَسْمَعيكَ، تَنْهلُّ نوحاً وعويلاً مُراً، شجون القلوبِ
فأرى بُرقعاً شفيفاً، من الأو جاع، يُلقي عليك شجوَ الكئيبِ
وأرى في السُّكون أجنحة الجبَّـ ـبارِ، مخلصة ً بدمعِ القُلوبِ
فَلَكَ اللَّهُ! مِنْ فؤادٍ رَحيمٍ ولكَ الله! من فؤادٍ كئيب
يهجع الكونُ، في مابيبة ِ العصفور طفلاً، بصدركَ الغربيب
وبأحضانك الرحيمة ِ يستيقظُ، في نضرة الضَّحُوكِ، الطَّرُوبِ
شَادياً، كالطُّيوبِ بالأَملِ العَذْ بِ، جميلاً، كَبَهْجَة ِ الشُّؤْبُوبِ
ياظلام الحياة !يا روعة الحزنِ! ن! وَيَا مِعْزَفَ التَّعِيس الغَرِيبِ
وبقيثارة السّكنة ، في كفَّيـ
فَيكَ تنمُو زَنَابِقُ الحُلُمِ العذْ، بِ، وتذوِي لدَى لهيبِ الخُطوبِ
أَمْ قُلُوبٌ مُحِطَّاتٌ عَلَى سَا بُ ظِلالُ الدُّهورِ، ذَاتَ قُطوبِ
لبناتِ الشعر..، لكن قوَّضتهُ الحادثات
وَبِفَوْديكَ، فِي ضَفَائِرِكَ ـودِ، تدَّب الأيامُ أيَّ دَبيبِ
صَاحِ! إنَّ الحياة َ أنشودة ُ الحُزْ نِ، فرتِّلْ عَلَى الحياة ِ نَحِيبي
إنَّ كأسَ الحياة ِ مُتْرَعَة ٌ بالذَّمْـ مْعِ، فاسْكُبْ على الصَّبَاحِ حَبيبي
إنّ وادِي الظَّلامِ يَطْفَحُ بالهَوْ لِ، فما أبعد ابتسام القلوبِ!
لا يُغرّنَّك ابتسامُ بني الأر ضِ فَخَلْفَ الشُّعاعِ لَذْعُ اللَّهِيبِ
أنتَ تدري أنَّ الحياة َ قطو بٌ وَخُطُوبٌ، فَما حَيَاة ُ القُطُوبِ؟
إنّ في غيبة ِ الليالي، تِباعاً لخَطيبٌ يمرُّ إثر خطوبِ
سَدَّدَتْ في سكينة ِ الكونِ، للأعما قِ، نفْسي لخطأ بعيدَ الرُّسوبِ
نَظْرة ٌ مَزَّقَتْ شِغَافَ اللَّيالي لي فرأتْ مهجة َ الظْلام الهيوبِ
ورأتْ في صميمِها، لوعة َ الحزْ نِ، وأَصْغَتْ إلى صُراخِ القُلُوبِ
لا تُحاوِلْ أنْ تنكرَ الشَّجْوَ، إنّي قد خبرتُ الحياة َ خُبرَ لبيبِ
فتبرمتُ بالسّكينة والضجّـ ـة ، بل فد كرهتُ فيها نصيبي…
كنْ كما شاءَت السماءُ كئيباً أيُّ شيءٍ يَسُرُّ نفسَ الأَريبِ؟
أنفوسٌ تموتُ، شاخِصَة ً بالهو لِ، في ظلمة ِ القُنوطِ العَصيبِ؟
حلِ لُجِّ الأَسَى ، ـجِّ الأَسى ، بموْجِ الخُطوبِ؟
إنما النّاسُ في الحياة طيورٌ قد رَمَاهَا القَضَا بِوادٍ رَهِيبِ
يَعْصُفُ الهولُ في جَوَانبه السو دِ فيقْضي على صَدَى العندليبِ
قَدْ سَألتُ الحياة َ عَنْ نغمة ِ الفَجْـ ـرِ، وَعَنْ وَجْمة المساءِ القَطُوبِ
فسمعتُ الحياة َ، في هيكلِ الأحزا نِ، تشدو بِلَحْنِها المحبوبِ:
مَا سُكوتُ السَّماءِ إلا وُجُومٌ مَا نشيدُ الصَّبَاحِ غيرُ نحيبِ
لَيْسَ في الدَّهْرِ طَائرٌ يتغنّى في ضِفَافِ الحياة ِ غَيْرَ كَئيبِ
خضَّبَ الإكتئابُ أجنحة َ الأيّا مِ، بِالدَّمْعِ، والدَّم المَسْكُوب
وَعَجيبٌ أنْ يفرحَ النّاسُ في كَهْـ ـفِ اللَّيالي، بِحُزْنِهَا المَشْبُوبِ!»
كنتُ أَرْنو إلى الحياة ِ بِلَحْظٍ باسمٍ، والرّجاءُ دونَ لغوبِ
ذَاكَ عَهْدٌ حَسِبْتُهُ بَسْمَة َ الـ ـفَجْر، ولكنَّه شُعاع الغُروبِ
ذَاكَ عَهْدٌ، كَأَنَّه رَنَّة ُ الأفرا ح، تَنْسَابُ منْ فَمِ العَنْدَليبِ
خُفِّفَتْ ـ رَيْثَما أَصَخْتُ لَهَا بالقَلْـ ـبِ، حيناً ـ وَبُدِّلَتْ بَنَحيبِ
إن خمر الحياة وردية ُ اللونِ ولكنَّها سِمامُ القُلوبِ
جرفتْ من قرارة ِ القلبِ أحْلا مي، إلى اللَّحْدَ، جَائِراتُ الخُطُوبِ
فَتَلاشَتْ عَلَى تُخُومِ الليالي وتهاوَت إلى الجحيم الغضوبِ
وسوى في دُجنّة النّفس، ومضٌ لم يزل بين جيئَة ٍ، وذُهوبِ
ذكرياتٌ تميسُ في ظلمة ُ النَّفـ ـسِ، ضئالاً كرائعاتِ المشيبِ
يَا لِقَلْبٍ تَجَرّعَ اللَّوعة َ المُرَّ ة َ منْ جدولِ الزَّمانِ الرَّهيبِ!
وَمَضَتْ في صَمِيمِهِ شُعْلَة ُ الحُزْ ن، فَعَشَّتْهُ مِنْ شُعَاعِ اللَّهيبِ..

ضحكنا على الماضي البعيد وفي غد

ضحِكْنا على الماضي البعيدِ، وفي غدٍ ستجعلُنا الأيامُ أضحوكة َ الآتي
وتلكَ هِيَ الدُّنيا، رِوَايَة ُ ساحرٍ عظيمٍ، غريب الفّن، مبدعِ آياتِ
يمثلها الأحياءُ في مسرح الأسى ووسط ضبابِ الهّم، تمثيلَ أمواتِ
ليشهدَ مَنْ خَلْفَ الضَّبابِ فصولَها وَيَضْحَكَ منها مَنْ يمثِّلُ ما ياتي
وكلٌّ يؤدِّي دَوْرَهُ..، وهو ضَاحكٌ على الغيرِ، مُضْحُوكٌ على دوره العاتي

لست أبكي لعسف ليل طويل

لَسْتُ أبْكي لِعَسْفِ لَيْلٍ طَويلٍأَوْ لِربعٍ غَدَا العَفَاءُ مَرَاحهْ
إنَّما عَبْرَتِي لِخَطْبٍ ثَقِيلٍقد عَرانا، ولم نجد من أزاحهُ
كلّما قامَ في البلادِ خطيبٌ،مُوقِظٌ شَعْبَهُ يُرِيدُ صَلاَحَهْ
ألبسوا روحَهُ قميصَ اضطهادٍفاتكٍ شائكٍ يردُّ جِماحَهْ
وتوخَّوْاطرائقَ العَسف الإِرْهَاقِ تَوًّا، وَمَا تَوَخَّوا سَمَاحَهْ
هكذا المخلصون في كلِّ صوبٍرَشَقَاتُ الرَّدَى إليهم مُتَاحَهْ
غيرَ أنَّا تناوبتنا الرَّزاياواستباحَتْ حَمانا أيَّ استباحَهْ
أَنَا يَا تُوْنُسَ الجَمِيلَة َ فِي لُجِّالهَوى قَدْ سَبَحْتُ أَيَّ سِبَاحَهْ
شِرْعَتي حُبُّكِ العَمِيقُ وإنِّيقَدْ تَذَوَّقْتُ مُرَّهُ وَقَرَاحَهْ
لستُ أنصاعُ للوَّاحي ولو مــتُّ وقامتْ على شبابي المناحَة ْ
لا أبالي.., وإنْ أُريقتْ دِمائيفَدِمَاءُ العُشَّاق دَوْماً مُبَاحَهْ
وبطولِ المَدى تُريكَ اللياليصَادِقَ الحِبِّ وَالوَلاَ وَسَجاحَهْ
إنَّ ذا عَصْرُ ظُلْمَة ٍ غَيْرَ أنِّيمِنْ وَرَاءِ الظَّلاَمِ شِمْتُ صَبَاحَهْ
ضَيَّعَ الدَّهْرُ مَجْدَ شَعْبِي وَلكِنْسَتَرُدُّ الحَيَاة ُ يَوماً وِشَاحَهْ
أبيات أبو القاسم الشابي

النبي المجهول

أيْها الشعبُ ليتني كنتُ حطَّاباً فأهوي على الجذوعِ بفأسي
ليتَني كنتُ كالسيّولِ، إذا ما سالَتْ تهدُّ القبورَ: رمْساً برمٍسِ
ليتَني كنتُ كالريّاح، فأطوي ورودُ الرَّبيع مِنْ كلِّ قنْس
ليتني كنتُ كالسّتاء، أُغَشِّي كل ما أَذْبَلَ الخريفُ بقرسي
ليتَ لي قوَّة َ العواصفِ، يا شعبي فأُلقي إليكَ ثَوْرة َ نفسي
ليت لي قوة َ الأعاصيرِ إن ضجَّتْ فأدعوكَ للحياة ِ بنبسي
ليت لي قوة َ الأعاصيرِ لكْ أنتَ حيٌّ، يقضي الحياة برمسِ
أنتَ روحٌ غَبِيَّة ٌ، تكره النّور وتقضي الدهور في ليل مَلْس
أنتَ لا تدركُ الحقائقَ إن طافتْ حواليكَ دون مسّ وجسِ
في صباح الحياة ِ صَمَّخْتُ أكوابي وأترعتُها بخمرة ِ نفسي
ثُمَّ قدَمْتُها إليكَ، فأهرقْتَ رحيقي، ودُستَ يا شعبُ كأسي
فتألَّمت..، ثًمَّ أسكتُّ آلامي وكفكفتُ من شعوري وحسّي
ثُم نَضَّدْتُ من أزاهيرِ قلبي باقة ً، لمْ يَمَسَّها أيُّ إِنْسِي
ثم قدّمْتُها إليكَ، فَمزَّقْتَ ورودي، ودُستَها أيَّ دوسِ
ثم ألبَسْتَني مِنَ الحُزْنِ ثوباً وبشوْك الجِبال توَّجتَ رأسي
إنني ذاهبٌ إلى الغابِ، ياشَعْبي لأقضي الحياة َ، وحدي، بيأسي
إنني ذاهبٌ إلى الغابِ، علَّي في صميم الغابات أدفنُ بؤسي
ثُمَّ أنْسَاكَ ما استطعتُ، فما أنت بأهْلِ لخمرتي ولكَأسي
سوف أتلو على الطُّيور أناشيدي وأُفضي لها بأشواق نَفْسي
فَهْي تدري معنى الحياة ، وتدري أنّ مجدَ النُّفوسِ يَقْظَة ُ حِسِّ
ثم أقْضي هناك، في ظلمة الليل وأُلقي إلى الوجود بيأسي
ثم تَحْتَ الصَّنَوْبَر، النَّاضر، الحلو تَخُطُّ السُّيولُ حُفرة َ رمسي
وتظَلُّ الطيورُ تلغو على قبْرِي ويشدو النَّسيمُ فوقي بهمس
وتظَلُّ الفصولُ تمْشي حواليَّ كما كُنَّ في غَضارَة أمْسي
أيّها الشّعبُ! أنتَ طفلٌ صغيرٌ لاعبٌ بالتُّرابِ والليلُ مُغْسِ
أنتَ في الكَوْنِ قوَّة ٌ، لم تَنسْسها فكرة ٌ، عبقريَّة ٌ، ذاتُ بأسِ
أنتَ في الكَوْنِ قوة ٌ،كبَّلتْها ظُلُمَاتُ العُصور، مِنْ أمس أمسِ
والشقيُّ الشقيُّ من كان مثلي في حَسَاسِيَّتي، ورقَّة ِ نفسي
هكذا قال شاعرٌ، ناولَ النَّاسَ رحيقَ الحياة ِ في خير كأسِ
فأشاحُوا عنْها، ومرُّوا غِضابا واستخفُّوا به، وقالوا بيأس
“قد أضاعَ الرشّادُ في ملعب الجِنّ فيا بؤسهُ، أصيب بمسّ
طالما خاطبَ العواصفَ في الليلِ ويَمْشي في نشوة ِ المُتَحَسِّي
طالما رافقَ الظلامَ إلى الغابِ ونادى الأرواحَ مِن كلِّ جِنْس
طالما حدَّثَ الشياطينَ في الوادي وغنّى مع الرِّياح بجَرسِ
إنه ساحرٌ، تعلِّمُه السحرَ الشياطينُ، كلَّ مطلع شمسْ
فکبعِدوا الكافرَ الخبيثَ عن الهيكلِ إنّ الخَبيثَ منبعُ رِجْسِ
«أطردوه، ولا تُصيخوا إليه فهو روحٌ شريِّرة ٌ، ذات نحْسِ
هَكَذا قَال شاعرٌ، فيلسوفٌ عاشَ في شعبه الغبيِّ بتَعْسِ
جَهِلَ الناسُ روحَه، وأغانيها فساموُا شعورَه سومَ بخْسِ
فَهْوَ في مَذهبِ الحياة ِ نبيٌّ وَهْوَ في شعبهِ مُصَابٌ بمسِّ
هكذا قال، ثمّ سَار إلى الغابِ ليَحْيا حياة شعرٍ وقُدْسِ
وبعيداً، هناك..، في معبد الغاب الذي لا يُظِلُّه أيُّ بُؤْسِ
في ظلال الصَّنوبرِ الحلوِ، والزّيتونِ يقْضي الحياة َ: حرْساً بحرْسِ
في الصَّباح الجميل، يشدو مع الطّير ويمْشي في نشوة ِ المنحسِّي
نافخاً نايَه، حوالْيه تهتزُّ ورودُ الرّبيع منْ كلِّ فنسِ
شَعْرُه مُرْسَلٌ- تداعُبه الرّيحُ على منكبْيه مثلَ الدُّمُقْسِ
والطُّيورُ الطِّرابُ تشدو حواليه وتلغو في الدَّوحِ، مِنْ كُلِّ جنسِ
وترا عند الأصيل، لدى الجدول يرنو للطَّائرِ المتحسِّي
أو يغنِّي بين الصَّنوبرِ، أو يرنو إلى سُدْفَة الظَّلامِ الممسّي
فإذا أقْبَلَ الظلامُ، وأمستْ ظلماتُ الوجودِ في الأرض تُغسي
كان في كوخه الجميل، مقيماً يَسْألُ الكونَ في خشوعٍ وَهَمْسِ
عن مصبِّ الحياة ِ، أينَ مَدَاهُ وصميمِ الوجودِ، أيَّان يُرسي
وأريجِ الوُرودِ في كلِّ وادٍ ونَشيدِ الطُّيورِ، حين تمسِّي
وهزيمِ الرِّياح، في كلِّ فَجٍّ وَرُسُومِ الحياة ِ من أمس أمسِ
وأغاني الرعاة ِ أين يُواريها سُكونُ الفَضا، وأيَّان تُمْسي
هكذا يَصْرِفُ الحياة َ، ويُفْني حَلَقات السنين: حَرسْاً بحرْسِ
يا لها من معيشة ٍ في صميم الغابِ تُضْحي بين الطيور وُتْمْسي
يا لها مِنْ معيشة ٍ، لم تُدَنّسْهَا نفوسُ الورى بخُبْثٍ ورِجْسِ
يا لها من معيشة ٍ، هيَ في الكون حياة ٌ غريبة ٌ، ذاتُ قُدسِ