إذا لم يكنْ من لقاءِ المنايا | مناصٌ لمن حلَّ هذا الوجودْ |
فأيُّ غَناءٍ لهذي الحياة | وهذا الصراعِ، العنيفِ، الّشديد |
وذاك الجمال الذي لا يُملُّ | وتلك الأغاني،وذاكَ الّنشيد |
وهذا الظلامِ، وذاك الضياءِ | وتلكَ النّجومِ، وهذا الصَّعيد |
لماذا نمرّ بوادِي الزمان | سِراعاً، ولكنّنا لا نَعُود؟ |
فنشرب من كلّ نبع شراباً | ومنهُ الرفيعُ، ومنه الزَّهيد؟ |
ومنه اللذيذُ، ومنه الكريهُ، | ومنه المُشيدُ، ومنه الُمبيد |
وَنَحْمِلُ عبْئاً من الذّكرياتِ | وتلكَ العهودَ التي لا تَعود |
ونشهدُ أشكالَ هذي الوجوهِ | وفيها الشَّقيُّ، وفيها السَّعيدْ |
وفيها البَديعُ، وفيها الشنيعُ، | وفيها الوديعُ، وفيها العنيدْ |
فيصبحُ منها الوليُّ، الحميمُ، | ويصبحُ منها العدوُّ، الحقُودْ |
غريبٌ لعَمْري بهذا الوجودْ | |
أتيناه من عالمٍ، لا نراه | فُرادى ، فما شأنُ هذي الحقُودْ؟ |
وما شأنُ هذا العَدَاءِ العنيفِ؟ | وما شأنُ هذا الإخاءِ الوَدودْ؟ |
شاعر تونس
هو الشاعرالكبير أبو القاسم الشابي ويلقب كذلك بشاعر الخضراء.
ولكن إذا ما لَبسنا الخلودَ
ولكن إذا ما لَبسنا الخلودَ | وَنِلنا كمالَ النُّفوسِ البعيدْ |
فهل لا نَمَلُّ دوامَ البقاء؟ | وهل لا نَوَدُّ كمالا جديد |
وكيف يكوننَّ هذا “الكمالُ”: | ماذا تراه؟ وكيف الحدود |
وإنّ جمالَ «الكمال» «الطُّموحُ» | وما دامَ «فكراً» يُرَى من بعيدْ |
فما سِحْرُهُ إنْ غدا «واقعاً» | يُحَسُّ، وأصبحَ شيئاً شهيدْ؟ |
وهل ينطفي في النفوس الحنينُ | وتصبحُ أشواقُنا في خُمودْ |
فلا تطمحُ النَّفْسُ فوقَ الكمالِ | |
إذا لم يَزُل شوْقُها في الخلودِ | فذاكَ لعمري شقاءُ الجدود |
وحربٌ، ضروسٌ،_ كاقد عهدتُ_ | وَنَصْرٌ، وكسرٌ وهمُّ مديدْ |
وإن زال عنُها فذاك الفَناءُ | وإن كانَ في عَرَصات الخُلود |
أنتَ يا شعرُ، فلذة ٌ من فؤادي
أنتَ يا شعرُ، فلذة ٌ من فؤادي | تتغنَّى ، وقطعة ُ من وجودي |
فيكَ مَا في جوانحي مِنْ حَنينٍ | أبديِّ إلى صَميم الوجودِ |
فيكَ مَا في خواطري من بكاءٍ | فيك ما في عواطفي مِنْ نَشيدِ |
فيكَ ما في مَشَاعري مِنْ وُجومٍ | لا يغنِّي، ومن سرور عهيدِ |
فيكَ ما في عَوَالمي مِنْ ظلامٍ | سرمديّ، ومن صباحٍ وليدِ |
فيكَ ما في عَوَالمي من نجومٍ | ضاحكاتٍ خلف الغمام الشرودِ |
فيكَ ما في عَوَالمي من ضَبَابِ | وسراب، ويقظة ، وهجودِ |
فيكَ ما في طفولتي مِنْ سلامٍ، | وابتسامٍ، وغبطة ٍ، وَسُعودِ |
فيكَ ما في شبيتي من حنينٍ، | وشجون، وبهجة ، وجمودِ |
فيك- إن عانق الربيع فؤادي | تتثنَّى سَنَابلي وَوُرُودي |
ويغنى الصّباحُ أنشودة َ الحب، | على مَسْمَعِ الشَّبابِ السَّعيدِ |
ثم أجنى في صيْف أحلاميَ | الساحر ما لذَّ من ثمار الخلودِ |
فيك يبدو خريفُ نفسي مَلُولاً، | شاحبَ اللون، عاريَ الأملود |
حَلَّلْته الحَياة ُ بالحَزَنِ الدّا | هُتافُ السَّؤُوم والمُسْتَعيدِ |
فيك يمشي شتاءُ أيَّاميَ البا | كي، وتُرغي صَوَاعقي وَرُعُودي |
وتجفُّ الزهورُ في قلبيَ الدا | جي، وَتَهْوي إلى قرارٍ بعيدِ. |
أنت يا شعرُ-قصة ٌ عن حَياتي | أنت يا شعرُ صورة ٌ من وجودي |
أنت يا شعر-إن فرحتُ-أغاريدي | وإن غنَّت الكآبة -عودي |
أنت ياشعرُ كأسُ خمرٍ عجيبٍ | أتلَّهى به خلال اللحودِ.. |
أتحسَّاهُ في الصَّباحِ، لأنسى | ما تقضَّى في أمسيَ المفقودِ |
وأناجيه في المساءِ، لِيُلْهِيَني | |
أنتَ ما نِلْتُ من كهوفِ الليالي | وتصفَّحتُ من كتاب الخلودِ |
فيك ما في الوجودِ مِنْ حَلَكٍ، دا | جٍ، وما فيه من ضياءٍ، بَعيدِ |
فيك ما في الوجودِ من نَغَمٍ، | حُلْوٍ، وما فيه مِن ضَجيجٍ، شَديدِ |
فيك ما في الوجودِ مِنْ جَبَلٍ، | وعْرٍ، وما فيه من حَضِيضٍ، وَهِيدِ |
فيك ما في الوجودِ من حَسَكٍ، | يُدْمِي، وما فيه من غَضيضِ الورودِ |
يودُّ الفَتَى لو خاضَ عاصفة َ الرّدى
يودُّ الفَتَى لو خاضَ عاصفة َ الرّدى | وصدَّ الخميسَ المَجْرَ، والأسَدَ الوَرْدَا |
لِيُدْرِكَ أمجادَ الحُروبِ، وَلَوْ دَرى | حَقِيقَتَها مَا رام مِنْ بيْنها مَجْدا |
فَما المجدُ في أنْ تُسْكِرَ الأرضَ بالدِّما | وتركَبَ في هيجائها فرَساً نهْدَا |
ولكنّه في أن تَصُدَّ بهمَّة ٍ | عن العالَمِ المرزوءِ، فيْضَ الأسى صدَّا |
يا ليلُ! ما تصنعُ النفسُ التي سكنتْ
يا ليلُ! ما تصنعُ النفسُ التي سكنتْ | هذا الوجودَ، ومِنْ أعدائها القَدَرُ؟ |
ترضى وَتَسْكُتُ؟ هذا غيرُ محتَمَلٍ! | إذاً، فهل ترفضُ الدنيا، وتنتحرُ؟ |
وذا جنونٌ، لَعَمْري، كلُّه جَزَعٌ | باكٍ، ورأيٌ مريضٌ، كُلُّه خَوَرُ! |
فإنما الموتُ ضَرْبٌ من حَبائِله | لا يُفلتُ الخلقُ ما عاشوا، فما النَّظرُ؟ |
هذا هو اللّغْزُ، عَمَّاهُ وعَقَّدَهُ | على الخليقة ِ، وحْشٌ، فاتكٌ حذِرُ |
قد كَبَّلَ القدرُ الضّاري فرائسَه | فما استطاعُو له دفْعاً، ولا حَزَروا |
وخاطَ أعينَهم، كي لا تُشَاهِدَهُ | عينٌ، فتعلمَ ما يأتي وما يذرُ |
وَحَاطَهُمْ بفنونٍ من حَبَائِلِهِ | فما لَهُمْ أبداً مِنْ بطشِه وَزرُ |
لا الموتُ يُنقذُهم من هَوْل صولَتهِ | ولا الحياة ُ، تَسَاوَى النّاسُ والحَجَرُ! |
حَارَ المساكينُ، وارتاعُوا، وأَعْجَزَهم | أن يحذروهُ، وهَلْ يُجْديهمُ الحذرُ |
وَهُمْ يعيشونَ في دنيا مشيَّدة ٍ | منَ الخطوب، وكونٍ كلَّه خَطرُ؟ |
وكيف يحذرُ أعمَى ، مُدْلِجٌ، تَعِبٌ | هولَ الظَّلامِ، ولا عَزمٌ ولا بَصَرُ؟ |
قد أيقنوا أنه لا شيءَ يُنقذهُم | فاستسلموا لِسُكُونِ الرُّعْبِ، وانتظروا.. |
ولو رأوه لسَارتْ كي تحارِبَه | مِنَ الورى زُمَرٌ، في إثرِهَا زُمَرُ |
وثارت الجنّ، والأملاك ناقمة ً | والبحرُ، والبَرُّ، والأفلاكُ، والعُصُر |
لكنه قوَّة ٌ تُملي إرادتها | سِرَّا، فَنَعْنو لها قهراً، ونأتمرُ |
حقيقة مُرَّة ، يا ليلُ، مُبْغَضَة ٌ | كالموت، لكنْ إليها الوِرْدُ والصَّدَرُ |
تَنَهَّدَ اللَّيْلُ، حتَّى قلتُ: «قد نُثِرَتْ | تلك النجومُ، ومات الجنُّ والبشرُ |
وَعَاد للصّمتِ..، يُصغي في كآبته | كالفيلسوف-إلى الدنيا، ويفتكرُ.. |
وقَهْقَهَ القَدرُ الجبّارُ، سخرية ً | بالكائنات. تَضَاحَكْ أيّها القدرُ! |
تمشي إلى العَدَمِ المحتومِ، باكية ً | طوائفُ الخلق، والأشكالُ والصورُ |
وأنتَ فوقَ الأسى والموت، مبتسمٌ | ترنو إلى الكون، يُبْنَى ، ثمّ يندَثِرُ |
يَا أيُّها الشَّادِي المغرِّدُ ههُنا
يَا أيُّها الشَّادِي المغرِّدُ ههُنا | ثَمِلاً بِغِبْطة ِ قَلْبِهِ المَسْرُورِ |
مُتَنَقِّلاً بينَ الخَمائلِ، تَالِياً | وحْيَ الربيعِ السّاحرِ المسحورِ |
غرّدْ، ففي تلك السهول زنابقٌ | تَرْنُو إليكَ بِنَاظرٍ مَنْظُورِ |
غرِّدْ، ففي قلبي إليْك مودَّة ٌ | لكن مودَّة طائر مأسورِ |
هَجَرَتْهُ أَسْرابُ الحمائمِ، وانْبَرَتْ | لِعَذَابِهِ جنِّية ُ الدَّيْجُورِ… |
غرِّد، ولا ترهَبْ يميني، إنّني | مِثْلُ الطُّيورِ بمُهْجَتي وضَمِيري |
لكنْ لقد هاضَ الترابُ ملامعي | فَلَبِثْتُ مِثْلَ البُلبلِ المَكْسُورِ |
أشدُو برنّاتِ النِّياحَة ِ والأسى | مشبوبة بعواطفي وشعوري |
غرِّدْ، ولا تحفَلْ بقلبي، إنّهُ | كالمعزَفِ، المتحطِّمِ، المهجورِ |
رتِّل عَلى سَمْع الرَّبيعِ نشيدَهُ | واصدحْ بفيضِ فؤادك المسجورِ |
وکنْشِدْ أناشيدَ الجَمال، فإنَّها | روحُ الوجود، وسلوة المقهورِ |
أنا طَائرٌ، مُتَغرِّدٌ، مُتَرنِّمٌ | لكِنْ بصوتِ كآبتي وَزَفيري |
يهتاجُني صوتُ الطّيور، لأنَّه | مُتَدَفِّقٌ بحرارة وطَهورِ |
ما في وجود النَّاس مِنْ شيءٍ به | يَرضَى فؤادي أو يُسَرُّ ضميري |
فإذا استمعتُ حديثَهم أَلْفَيْتُهُ | غَثّاً، يَفِيض بِركَّة ٍ وَفُتُورِ |
وإذا حَضَرْتُ جُمُوعَهُمْ ألْفَيتَنِي | ما بينهم كالبلبل المأسورِ |
متوحِّداً بعواطفي، ومشاعري، | وَخَوَاطِري، وَكَآبتي، وَسُروري |
يَنْتَابُنِي حَرَجُ الحياة كأنّني | مِنْهمْ بِوَهْدَة جَنْدلٍ وَصُخورِ |
فإذا سَكَتُّ تضجَّروا، وإذا نَطَقْتُ | تذمَّروا مِنْ فكْرَتي وَشُعوري |
آهٍ مِنَ النَّاسِ الذين بَلَوْتُهُمْ | فَقَلَوْتُهُمْ في وحشتي وَحُبُوري! |
ما منهم إلا خبيثٌ غادرٌ | متربِّصٌ بالنّاس شَرَّ مصيرِ |
وَيَودُّ لو مَلَكَ الوُجودَ بأسره | ورمى الوَرى في جاحِمٍ مسجورِ |
لِيُبلَّ غُلَّتَهُ التي لا ترتوي | ويكظّ نهمة قلبه المغفورِ |
وإذا دخلتُ إلى البلاد فإنَّ أفكا | ـكاري تُرَفْرِفُ في سُفوح الطُّورِ |
حيثُ الطبيعة ُ حلوة ٌ فتَّانَة ٌ | تختال بين تَبَرُّجِ وَسُفُورِ |
ماذا أودُّ من المدينة ، وهي غارقة ٌ | بموَّار الدَّم المهْدورِ |
ماذا أودُّ من المدينة ، وهي لا | ترثي للصوتِ تَفجُّع المَوْتُورِ؟ |
ماذا أودُّ من المدينة ، وهي لا | تَعْنو لِغَير الظَّالمِ الشَّرِّيرِ؟ |
ماذا أودُّ من المدينة ، وهي مُرْتادٌ | لكل دعارة وفجورِ؟ |
يا أيُّها الشَّادي المغرِّدُ ههنا | ثَمِلاً بغبطة قَلْبهِ المسرورِ! |
قبِّلْ أزاهيرَ الربيعِ، وغنِّها | رنَمَ الصّباحِ الضَاحكِ المحبورِ |
واشربْ مِنَ النَّبع، الجميل، الملتوي | ما بين دَوْحِ صنوبر وغدير |
وکتْرُكْ دموعَ الفَجْرِ في أوراقِها | حتَّى تُرشِّفَهَا عَرُوسُ النُّورِ |
فَلَرُبَّما كانتْ أنيناً صاعداً | في اللَّيل مِنْ متوجِّعٍ، مَقْهورِ |
ذرفته أجْفان الصباح مدامعاً | ألاّقة ، في دوحة وزهورِ… |