سما يناغي الشهبا

سما يناغي الشهبا هل مسَّها فالتهبا 
كالدَّيدبانِ ألزموهُ  في البحار مرقبا
شيع منه مركبا وقام يلقي مركبا
بشر بالدار وبالأَهلِ  السُّراة الغُيَّبا
وخَطَّ بالنُّور على لوْحِ الظلام: مَرْحَبَا
كالبارق المُلِحِّ لم يولِّ إلا عقَّبا
يا رُبَّ ليلٍ لم تَذُقْ فيه الرقاد طربا
بتنا نراعيه كما يرعى السُّراة الكوكبا
سعادة ٌ يعرفها في الناس من كان أَبَا
مَشَى على الماءِ، وجاب  كالمسيح العببا
وقام في موضعه مُستشرِفاً مُنَقِّبا
يرمي إلى الظلام طرفاٌ حائراٌ مذبذبا
كمبصرٍ أدار عيناٌ في الدجى ، وقلِّبا
كبصر الأَعشى أَصاب  في الظلام ، ونبا
وكالسراج في يَدِ الــريح  أضاءَ، وخَبا
كلمحة ٍ من خاطرٍ ما جاء حتى ذهبا
مجتنبُ العالم في عُزلته مُجْتَنَبا
إلا شراعاً ضلَّ ، أو فُلْكاً يُقاسي العَطَبا
وكان حارس الفنارِ  رجُلاً مُهذَّبا
يهوى الحياة ، ويحبَّ العيش سهلاً طيِّبا
أتت عليه سنواتٌ مُبْعَداً مُغْتَرِبا
لم يَرَ فيها زَوْجَهُ ولا ابنَه المحبَّبا
وكان قد رعى الخطيبَ  ووعى ما خطَبا
فقال : يا حارسُ  خلٍّ السُّخط والتعتُّبا
من يُسعِفُ الناسَ إذا نُودِي كلٌّ فأَبى 
ما الناس إخوتي ولا آدمُ كان لي أبا
أنظر إليَّ ، كيف أقضي  لهم ما وجَبا 
قد عشتُ في خِدمتهم ولا تراني تعبا
كم من غريقٍ قمت عند رأسه مطبَّبا
وكان جسماَ هامداً حرّكتهُ فاضطربا
وكنت وطَّأت له مَناكبي، فرَكبا
حتى أتى الشطَّ ، فبشَّ  من به ورحَّبا
وطاردوني ، فانقلب تُ خاسراَ مخيٍّبا
ما نلت منهم فضة َ ولا منحت ذهبا
وما الجزاء ؟ لا تسل كان الجزاءُ عجبا!
ألقوا عليّ شبكا وقطَّعوني إربا
واتخذ الصٌّنَّاع من شَحميَ زَيْتا طيِّباً
ولم يَزَلْ إسعافُهم ليَ الحياة َ مذهبا
ولم يزل سَجِيَّتي وعملي المُحبَّبا
إذا سمعتُ صرخة ً طرتُ إليها طربا
لا أَجِدُ المُسْعِفَ إلا ملكاً مقرَّبا
والمسعفون في غدٍ يؤلفون مَوْكبا
يقول رِضوانُ لهم هيَّا أدخلوها مرحبا
مُذنِبُكم قد غَفَر اللهُ لهُ ما أذنبا

فديناه من زائر مرتقب

فديناهُ من زائرٍ مرتقبْ بدا للوجودِ بمرأى عجبْ
تَهُزُّ الجبالَ تَباشيرُهُ كما هَزَّ عِطفَ الطَّروبِ الطَّرَب
ويُحْلِي البحارَ بلألائهِ فمِنَّا الكؤوسُ، ومنه الحبَب
منارٌ الحزونِ إذا ما إعتلى منارُ السهولِ إذا ما إنقلب
أتانا من البحرِ في زورقٍ لجيناً مجاذيفهُ من ذهب
فقلنا: سُليمانُ لو لم يَمُتْ وفرعونٌ لو حملتهُ الشُّهب
وكِسرَى وما خَمَدتْ نارُه ويوسُفُ لو أنه لم يشِبْ
وهيهاتَ ما توجوا بالسَّنا ولا عرشهم كان فوقَ السُّحب
أنافَ على الماءِ ما بينها وبينَ الجبالِ وشُمِّ الهضب
فلا هو خافٍ، ولا ظاهرٌ ولا سافرٌ، لا، ولا مُنتقِب
وليس بِثَاوٍ، ولا راحلٍ ولا بالبعيدِ، ولا المقترب
تَوارَى بِنصفٍ خلالَ السُّحُبْ ونصفٌ على جبلٍ لم يغب
يجدِّدها آية ٍ قد خلت ويذكرُ ميلادَ خيرِ العرب

إن تسألي عن مصر حواء القرى

إن تسألي عن مصرَ حواءِ القرى وقرارة ِ التاريخِ والآثارِ
فالصُّبحُ في منفٍ وثيبة واضحٌ مَنْ ذا يُلاقي الصُّبحَ بالإنكار
بالهَيْلِ مِن مَنْفٍ ومن أَرباضِها مَجْدُوعُ أَنفٍ في الرّمالِ كُفارِي
خَلَتِ الدُّهُورُ وما التَقَتْ أَجفانُه وأتتْ عليه كليلة ٍ ونهار
ما فَلَّ ساعِدَه الزمانُ، ولم يَنَلْ منه اختلافُ جَوارِفٍ وذَوار
كالدَّهرِ لو ملكَ القيامَ لفتكة ٍ أَو كان غيرَ مُقَلَّمِ الأَظفار
وثلاثة ٍ شبَّ الزمانُ حيالها شُمٍّ على مَرّ الزَّمانِ، كِبار
قامت على النيلِ العَهِيدِ عَهِيدة ً تكسوه ثوبَ الفخرِ وهيَ عوار
من كلِّ مركوزٍ كرَضْوَى في الثَّرَى متطاولٍ في الجوَّ كالإعصار
الجنُّ في جنباتها مطروة ٌ ببدائع البنَّاءِ والحفَّار
والأَرضُ أضْيَعُ حِيلة ً في نَزْعِها من حيلة ِ المصلوبِ في المسمار
تلكَ القبورُ أضنَّ من غيب بما أَخفَتْ منَ الأَعلاق والأَذخار
نام الملوك بها الدُّهورَ طويلة ً يجِدون أَروحَ ضَجْعَة ٍ وقرار
كلُّ كأهلِ الكهف فوقَ سريره والدهرُ دونَ سَريرِه بهِجَار
أملاكُ مصرَ القاهرون على الورى المنزَلون منازلَ الأَقمار
هَتَكَ الزمان حِجابَهم، وأَزالهم بعدَ الصِّيانِ إزالة َ الأسرار
هيهاتَ لم يلمسْ جلالهمو البلى إلا بأَيدٍ في الرَّغام قِصار
كانوا وطرفُ الدهر لا يسمو لهم ما بالهمْ عرضوا على النُّظَّار
لو أُمهلوا حتى النُّشُورِ بِدُورِهم قاموا لخالقهم بعير غبار

نجدد ذكرى عهدكم ونعيد

نُجدِّدُ ذِكرَى عهدِكم ونُعيدُ وندني خيالَ الأمسِ وهوَ بعيدُ
وللناسِ في الماضي بصائرُ يَهتدِي عليهِنَّ غاوٍ، أَو يسيرُ رشيد
إذا الميْتُ لم يَكرُمْ بأَرضٍ ثناؤُهُ تحيَّرَ فيها الحيُّ كيف يسود
ونحنُ قضاة ُ الحقِّ، نرعى قديمهُ وإن لم يفتنا في الحقوقِ جديد
ونعلمُ أنَّا في البناءِ دعائمٌ وأنتم أساسٌ في البناءِ وطيد
فريدُ ضحايانا كثيرٌ، وإنما مَجالُ الضحايا أَنتَ فيه فريد
فما خلفَ ما كابدتَ في الحقِّ غاية ٌ ولا فوقَ ما قاسيْتَ فيه مَزيد
تغرَّبْتَ عشراً أَنتَ فيهنَّ بائسٌ وأنت بآفاقِ البلادِ شريد
تجوعُ ببلدانٍ، وتعرى بغيرها وتَرْزَحُ تحتَ الداءِ، وهُوَ عَتيد
ألا في سبيلِ اللهِ والحقِّ طارفٌ من المالِ لم تبخلْ به، وتليد
وَجودُكَ بعدَ المالِ بالنفسِ صابراً إذا جزعَ المحضورُ وهوَ يجود
فلا زِلْتَ تمثالاً من الحقِّ خالصاً على سرهِ نبني العلا، ونشيد
يعلم نشءَ الحي كيف هوى الحمى وكيف يحامي دونهُ، ويذود

أرى شجرا في السماء احتجب

أرى شجراً في السماء احتجبْ وشقّ العَنانَ بمَرْأَى عَجبْ
مآذنُ قامت هنا أو هناكَ ظواهرها درجٌ من شذب
وليس يؤذِّنُ فيها الرجالُ ولكن تصبح عليها الغرب
وباسقة ٍ من بناتِ الرمالِ نَمتْ ورَبتْ في ظلالِ الكُثُب
كسارية ِ الفُلْكِ، أَو كالمِسـلَّة ِ  أَو كالفَنارِ وراءَ العَبَب
تطولُ وتقصرُ خلفَ الكثيبِ إذا الريحُ جاءَ به أَو ذهب
تُخالُ إذا اتَّقدَتْ في الضُّحَى وجرَّ الأصيلُ عليها اللهب
وطافَ عليها شعاع النهارِ من الصحوِ، أو منْ حواشي السحب
وصيفة َ فرعونَ في ساحة ٍ من القصر واقفة ً ترتقب
قد اعتصبتْ بفصوص العقيقِ مُفصَّلة ً بِشُذورِ الذهب
وناطتْ قلائدَ مَرْجانِها على الصدر، واتَّشَحَتْ بالقَصَب
وشَدَّتْ على ساقِها مِئْزَراً تعقَّدَ من رأسها للذنب
أهذا هو النخلُ ملكُ الرياضِ أَميرُ الحقولِ، عروسُ العزب
طعامُ الفقيرِ، وحَلوَى الغَنيِّ وزادُ المسافِر والمُغْتَرِب
فيا نخلة َ الرملِ، لم تبخلي ولا قصَّرتْ نخلاتُ الترب
وأعجبُ: كيف طوى ذكركنَّ ولم يحتفلْ شعراءُ العرب
أليس حراماً خلوُّ القصائدِ من وصفكنّ، وعطلُ الكتب
وأنتنّ في الهاجراتِ الظِّلالُ كأَنّ أَعالِيَكُنَّ العَبَب
وأنتنّ في البيد شاة ُ المعيلِ جناها بجانبِ أخرى حلبَ
وأنتنّ في عرصاتِ القصورِ حسانُ الدُّمى الزائناتُ الرّحب
جناكنّ كالكرمِ شتى المذاقِ وكالشَّهدِ في كل لون يُحَبّ

أمن البحر صائغ عبقري

أَمِنَ البحرِ صائغٌ عَبْقَرِيٌّبالرمالِ النواعمِ البيضِ مغرى 
طاف تحتَ الضُّحَى عليهنَّ، والجوْهَرُ في سُوقِه يُباعُ ويُشْرَى
جئنهُ في معاصمٍ ونحوٍفكسا معصماً، وآخرَ عرى
وأبى أن يقلدَ الدرَّ والياقوتَ نحراً، وقلَّدَ الماسَ نحْرا
وترى خاتماً وراءَ بَنانٍوبَناناً من الخواتمِ صِفْرا
وسواراً يزينُ زندَ كعابٍوسواراً من زندِ حسناءَ فرّا
وترى الغِيدَ لُؤلؤاً ثَمَّ رَطْباًوجماناً حوالي الماءِ نثرا
وكأَنَّ السماءَ والماءَ شِقَّاصدفٍ، حمَّلا رفيفاً ودرَّا
وكأَنّ السماءَ والماءَ عُرْسٌمترعُ المهرجان لمحاً وعطرا
أَو رَبيعٌ من ريشة ِ الفنِّ أَبهَىمِن ربيع الرُّبى ، وأَفتنُ زَهْرا
أو تهاويل شاعرٍ عبقريٍّطارحَ البحرَ والطبيعة َ شعرا
يا سواريْ فيروزجٍ ولجينٍبها حليتْ معاصمُ مصرا
في شُعاعِ الضُّحَى يعودان ماساًوعلى لمحة ِ الأصائلِ تبرا
ومَشَتْ فيهما النّجومُ فكانتفي حواشيهما يواقيتَ زهرا
لكَ في الأرضِ موكبٌ ليس يألوالــريحَ والطيرَ والشياطينَ حشرا
سرتَ فيه على كنوز سليمانَ تعدُّ الخُطى اختيالاً وكِبْرا
وتَرنَّمْتَ في الركابِ، فقلناراهبٌ طاف في الأَناجيل يَقرا
هو لحنٌ مضي‍َّعٌ، لا جواباًقد عرفنا له، ولا مستقرا
لك في طيِّهِ حديثُ غرامٍظلَّ في خاطر الملحنِ سرَّا
قد بعثنا تحيَّة ً وثناءًلكَ يا أرفعَ الزواخر ذكرا
وغشيناكَ ساعة ً تنبشُ الماضي نبشاً، وتقتلُ الأمسَ فكرا
وفتحنا القديمَ فيك كتاباًوقرأنا الكتابَ سطراً فسطرا
ونشرنا من طيهنَّ اللياليفلَمَحنا من الحضارة ِ فَجْرا
ورأَينا مصراً تُعلِّمُ يونانَ، ويونانَ تقبِسُ العلمَ مصرا
تِلكَ تأْتيكَ بالبيانِ نبيّاًعبقرياً، وتلك بالفنّ سحرا
ورأَينا المنارَ في مطلع النَّجْــمِ على برقِهِ المُلَمَّحِ يُسرى
شاطىء ٌ مثلُ رُقعة ِ الخُلدِ حُسناًوأديمِ الشبابِ طيباً وبشرا
جرَّ فيروزجاً على فضة ِ الماءِ، وجرَّ الأصيلُ والصبح تبرا
كلما جئتهُ تهلل بشراًمن جميع الجهاتِ، وافترَّ ثغرا
انثنى موجة ً، وأقبلَ يرخيكِلَّة ً تارة ً ويَرفعُ سِترا
شبَّ وانحطَّ مثلَ أَسرابِ طيرٍماضياتٍ تلفُّ بالسهلِ وعرا
رُبما جاءَ وَهْدَة ً فتردَّىفي المهاوي، وقامَ يطفرُ صخرا
وترى الرملَ والقصورَ كأيكٍركب الوكرُ في نواحيهِ وكرا
وتَرى جَوْسَقاً يُزَيِّنُ رَوْضاًوترى رَبوة ً تزيِّنُ مصرا
سَيِّدَ الماءِ، كم لنا من صلاحٍو عليٍّ وراءَ مائكَ ذِكرى 
كم مَلأْناكَ بالسَّفينِ مَواقِيــرَ كشُمِّ الجبالِ جُنداً ووَفرا
شاكياتِ السلاحِ يخرجنَ من مصــرٍ بملومة ٍ، ويدخلن مصرا
شارعاتِ الجناحِ في ثَبَجِ الماءِ كنسرٍ يشدُّ في السحب نسرا
وكأَنّ اللُّجاجَ حينَ تنَزَّىوتسدُّ الفجاجَ كرَّا وفرَّا
أجمٌ بعضُهُ لبعضٍ عدوٌّزَحَفَتْ غابة ٌ لتمزيق أُخرَى 
قذفتْ ههنا زئيراً وناباًورَمَت ههنا عُواء وظُفرا
أنتَ تغلي إلى القيامة ِ كالقدْرِ، فلا حطَّ يومها لكَ قدرا
شعر احمد شوقي