خَطَّتْ يداكَ الرَّوْضَة َ الغَنَّاءَ | وفرغتَ من صرحِ الفنونِ بناءَ |
ما زلتَ تَذهبُ في السُّمُوّ بِركنِهِ | حتى تجاوزَ ركنهُ الجوزاءَ |
دارٌ من الفنّ الجميلِ تقسَّمَتْ | للساهرين رواية ً وراواءَ |
كالروْضِ تحتَ الطيرِ أَعجبَ أَيْكُه | لَحْظَ العيونِ، وأَعجَبَ الإصغاءَ |
ولقد نزلتَ بها ، فلم نرَ قبلها | فلكاً جلا شمسَ النهارِ عشاءَ |
وتوهَّجَتْ حتى تقلَّب في السَّنا | وادي الملوكِ حجارة ً وفضاءَ |
فتلفَّتُوا يتهامسون: لعلَّهُ | فجرُ الحضارة ِ في البلاد أَضاءَ |
تلك المعازفُ في طلولِ بنائهم | أكثرنَ نحوَ بنائكَ الإيماء |
وتمايلتْ عيدانهنَّ تحية ً | وترنَّمَتْ أَوتارُهُنَّ ثناء |
يا بانيَ الإيوانِ، قد نسَّقتَهُ | وحذوتَ في هندامها الحمراء |
أينَ الغريضُ يحلُّهُ أو معبدٌ | يتبّوأَ الحجراتِ والأبهاءِ ؟ |
العبقرِيّة ُ من ضَنائنه التي | يحبو بها – سبحانه – من شاءَ |
لما بنيتَ الأَيْكَ واستَوْهَبْتَهُ | بَعثَ الهَزارَ، وأَرسَلَ الوَرْقاءَ |
فسمعتَ من متفرِّدِ الأنعامِ ما | فاتَ الرشيدَ، وأَخطأ النُّدَمَاءَ |
والفنُّ ريحانُ الملوكِ ، وربّما | خَلَدُوا على جَنباتِه أَسماء |
لولا أَياديه على أَبنائنا | لم نلفَ أمجدَ أمَّة آباءَ |
كانت أوائلُ كلِّ قومٍ في العلا | أرضاً ، وكنَّا في الفخارِ سماء |
لولا ابتسامُ الفنِّ فيما حَوْلَهُ | ظَلَّ الوجودُ جَهامة ً وجَفاءَ |
جِّدْ من الفنِّ الحياة ِ وما حوتْ | تجدِ الحياة َ من الجمالِ خلاءَ |
بالفنِّ عالجتِ الحياة َ طبيعة ٌ | قد عالجتْ بالواحة ِ الصحراء |
تأوي إليها الروحُ من رمضائها | فتُصيب ظِلاًّ، أَو تُصادِفُ ماءَ |
نبضُ الحضارة ِ في الممالكِ كلِّها | يجري السلامة َ أو يدقَ الداءَ |
إن صحَّ فهيَ على الزمان صحيحة ٌ | أو زافَ كانت ظاهراً وطلاءَ |
انظرْ ـ أَبا الفاروقِ ـ غَرْسَك، هل ترى | بالغرسِ إلا نعمة ً ونماء ؟ |
مِنْ حَبّة ٍ ذُخِرَتْ، وأَيدٍ ثابَرَتْ | جاءَ الزمانُ بجَنَّة ٍ فَيْحاءَ |
وأكنَّتِ الفنّ الجميلَ خميلة ٌ | رمتِ الظِّلالَ ، ومدَّتِ الأفياءَ |
بذَلَ الجهودَ الصالحاتِ عصابة ٌ | لا يَسأَلون عن الجهود جَزاءَ |
صحبوا رسولَ الفنِّ لا يألونه | حبَّاً ، وصدقَ مودّة ٍ ، ووفاءَ |
دفعوا العوائقَ بالثبات ، وجاوزوا | ما سرَّ من قَدر الأُمور وساءَ |
إن التعاوُنَ قوّة ٌ عُلْوِيَّة ٌ | تبني الرجالَ ، وتبدع الأشياءَ |
فليهبهمْ ، حاز التفاتك سعيهم | وكسا ندِيَّهُمُ سَناً وسَناءَ |
لم تبدُ للأبصار إلا غارساً | لخالفِ الأجيالِ أو بنَّاءَ |
تغدو على الفتراتِ تَرتَجِلُ النَّدَى | وتروحُ تصطنعُ اليدَ البيضاءَ |
في مَوكِبٍ كالغيْثِ سار ركابُهُ | بشراً ، وحلَّ سعادة ً ورخاءَ |
أَنت اللِّواءُ التفَّ قومُك حَوْله | والتاجُ يجعله الشعوبُ لِواءَ |
مِنْ كلِّ مِئْذَنة ٍ سَمِعْتَ مَحَبَّة ً | وبكلِّ ناقوسٍ لقيتَ دُعاءَ |
يتألفان على الهتافِ ، كما انبرى | وترٌ يساير في البنان غناءَ |
امير الشعراء
هو لقب للشاعر الكبير أحمد شوقي وهو شاعر مصري من شعراء العصر الحديث.
حبذا الساحة والظل الظليل
حبَّذا الساحة ُ والظلُ الظليلْ | وثناءٌ في فَمِ الدارِ جميلْ |
لم تزلْ تجري به تحت الثَّرى | لُجَّة المعروفِ والنَّيْلِ الجزيل |
صنعُ إسماعيلَ جلَّتْ يدهُ | كلُّ بُنيانٍ على الباني دليل |
أَتُراها سُدَّة ً من بابه | فتحتْ للخير جيلاً بعدَ جيل |
ملعبُ الأيلمِ ، إلاَّ أنَّه | ليس حظُّ الجدِّ منه بالقليل |
شهدُ الناسُ بها عائدة ً | وشجى الأجيالَ من فردي الهديل |
وائتنفنا في ذراها دولة ً | ركنها السؤددُ والمجدُ الأثيل |
أَينعتْ عصراً طويلاً، وأَتَى | دونَ أن تستأنفَ العصرُ الطويل |
كم ضفرنا الغارَ في محرابها | وعقدناه لسبّاقٍ أَصيل |
كم بدورٍ ودِّعتْ يومَ النَّوى | وشموسٍ شيِّعتْ يومَ الرحيل |
رُبَّ عُرسٍ مَرَّ للبِرِّ بها | ماج بالخيرِ والسمحِ المنيل |
ضحكَ الأيتامُ في ليلته | ومشى يستروحُ البرءَ العليل |
والتقى البائسُ والنُّعمى به | وسعى المأوى لأبناءِ السبيل |
ومن الأَرض جَدِيبٌ ونَدٍ | ومن الدُّور جوادٌ وبخيل |
يا شباباً حنفاءً ضمهمْ | منزلٌ ليس بمذمومِ النزيلْ |
يصرِفُ الشبان عن وِرْدِ القَذَى | ويُنحِّيهِمْ عن المَرْعَى الوَبيل |
اذهبوا فيه وجِيئوا إخوة ً | بعضكم خدنٌ لبعضٍ وخليل |
لا يضرنَّكمو قلَّته | كلُّ مولودٍ وإن جلَّ ضئيل |
أَرجفتْ في أَمركم طائفة ٌ | تبَّعُ الظنِّ عن الإنصاف ميل |
اجعلوا الصبرَ لهم حِيلَتكم | قلَّتِ الحيلة ُ في قالَ وقيل |
أيريدون بكم أن تجمعوا | رقَّة َ الدين إلى الخلقِ الهزيلِ |
خَلَتِ الأَرضُ من الهَدْي، ومن | مرشدٍ للنَّشءِ بالهديِ كفيل |
فترى الأسرة َ فوضى ، وترى | نشأً عن سنَّة ِ البرِّ يميل |
لا تكونوا السَّيْلَ جَهْماً خَشِناً | كلَّما عبَّ ، وكونوا السلسبيل |
ربَّ عينٍ سمحة ٍ خاشعة ٍ | رَوَّت العُشْبَ، ولم تنسَ النخيل |
لا تماروا الناسَ فيما اعتقدوا | كلُّ نفسٍ بكتابٍ وسبيل |
وإذا جئتم إلى ناديكمُ | فاطرحوا خلفكمو العِبْءَ الثقيل |
هذه ليْلَتُكم في الأُوبِرا | ليلة ُ القدرِ من الشهر النبيل |
مهرجانٌ طوَّف الهادي به | ومشى بين يديه جبرئيل |
وتجلتْ أوجهٌ زيَّنها | غررٌ من لمحة ِ الخير تسيل |
فكأن الليلَ بالفجرِ انجلى | وكأن الدارَ في ظلِّ الأصيل |
أَيها الأَجوادُ لا نجزيكمُ | لذَّة ُ الخيرِ منَ الخيرِ بديل |
رجلُ الأُمّة ِ يُرجَى عندَه | لجليل العملِ العونُ الجليل |
إم داراً حُطتمُوها بالنَّدى | أخذتْ عهدَ النَّدى ألاَّ تميل |
بني القبط إخوان الدهور رويدكم
بني القبطِ إخوانُ الدُّهورِ ، رويدكم | هبوه يسوعاً في البريّة ِ ثانيا |
حملتمِ لحكمِ اللهِ صلبَ ابنِ مريمٍ | وهذا قضاءُ الله قد غالَ غاليا |
سديدُ المرامِي قد رماه مُسَدِّدٌ | وداهية ُ السُوَّاسِ لاقى الدَّوَاهيا |
وواللهِ ، لو لم يطلقِ النارَ مطلقٌ | عليه، لأَوْدَى فجأَة ً، أَو تَداوِيا |
قضاءٌ، ومِقدارٌ، وآجالُ أَنفُسٍ | إذا هي حانت لم تُؤخَّرْ ثوانيا |
نبيدُ كما بادت قبائلُ قبلنا | ويبقى الأنامُ اثنينِ : ميتاً ، وناعياً |
تعالوا عسى نطوي الجفاءَ وعهده | وننبذُ أسبابَ الشِّقاقِ نواحيا |
أَلم تكُ مصرٌ مهدَنا ثم لَحْدَنا | وبينهما كانت لكلِّ مغانيا |
ألم نكُ من قبل المسيحِ ابن مريمٍ | و موسى وطه نعبُدُ النيلَ جاريا |
فَهلاَّ تساقيْنا على حبِّه الهَوَى | وهلاَّ فديْناه ضِفافاً ووادِيا |
وما زال منكم أَهلُ وُدٍّ ورحمة ٍ | وفي المسلمين الخيرُ ما زالَ باقيا |
فلا يثنِكم عن ذمَّة قتلُ بُطرُسٍ | فقِدْماً عرفنا القتلَ في الناس فاشيا |
عظيم الناس من يبكي العظاما
عظيمُ الناسِ من يبكي العظاما | ويَندُبُهُم ولو كانوا عِظاما |
وأَكرَمُ من غمامٍ عندَ مَحْلٍ | فتى ً يُحيي بمدحتِهِ الكراما |
وما عُذرُ المقصِّر عن جزاءٍ | وما يَجزِيهُمُ إلا كلاما |
فهل من مُبلِغٍ غليومَ عنِّي | مقالاً مُرْضِياً ذاك المقاما |
رعاكَ الله من ملكٍ هُمامٍ | تعهَّدَ في الثَّرَى مَلِكاً هُماما |
أَرى النِّسيانَ أَظمأَه، فلمَّا | وقفتَ بقبرهِ كنتَ الغماما |
تقرِّبُ عهدهُ للناسِ حتى | تركتَ الجليلَ في التاريخِ عاما |
أتدري أيَّ سلطانٍ تحيِّي | وأَيَّ مُملَّكٍ تُهدي السَّلاما |
دَعَوْتَ أَجَلَّ أَهلِ الأَرضِ حَرْباً | وأَشرفَهم إذا سَكنوا سَلاما |
وقفتَ به تذكّرهُ ملوكاً | تعوَّدَ أن يلاقوهُ قياما |
وكم جَمَعَتْهُمُ حربٌ، فكانوا | حدائدها ، وكان هو الحسما |
كلامٌ للبريّة دامياتٌ | وأَنتَ اليومَ مَنْ ضَمَدَ الكِلاما |
فلما قلتَ ما قد قلتَ عنه | وأَسمعتَ الممالكَ والأناما |
تساءلتِ البريّة ُ وهيَ كلمى | أَحُبّاً كان ذاكَ أَمِ انتقاما |
وأَنتَ أَجلُّ أَن تُزرِي بِميْتٍ | وأَنْتَ أَبرُّ أَن تُؤذِي عظاما |
فلو كان الدوامُ نصيبَ ملكٍ | لنالَ بحدِّ صارمهِ الدواما |
سما يناغي الشهبا
سما يناغي الشهبا | هل مسَّها فالتهبا |
كالدَّيدبانِ ألزموهُ | في البحار مرقبا |
شيع منه مركبا | وقام يلقي مركبا |
بشر بالدار وبالأَهلِ | السُّراة الغُيَّبا |
وخَطَّ بالنُّور على | لوْحِ الظلام: مَرْحَبَا |
كالبارق المُلِحِّ لم | يولِّ إلا عقَّبا |
يا رُبَّ ليلٍ لم تَذُقْ | فيه الرقاد طربا |
بتنا نراعيه كما | يرعى السُّراة الكوكبا |
سعادة ٌ يعرفها | في الناس من كان أَبَا |
مَشَى على الماءِ، وجاب | كالمسيح العببا |
وقام في موضعه | مُستشرِفاً مُنَقِّبا |
يرمي إلى الظلام طرفاٌ | حائراٌ مذبذبا |
كمبصرٍ أدار عيناٌ | في الدجى ، وقلِّبا |
كبصر الأَعشى أَصاب | في الظلام ، ونبا |
وكالسراج في يَدِ الــريح | أضاءَ، وخَبا |
كلمحة ٍ من خاطرٍ | ما جاء حتى ذهبا |
مجتنبُ العالم في | عُزلته مُجْتَنَبا |
إلا شراعاً ضلَّ ، أو | فُلْكاً يُقاسي العَطَبا |
وكان حارس الفنارِ | رجُلاً مُهذَّبا |
يهوى الحياة ، ويحبَّ | العيش سهلاً طيِّبا |
أتت عليه سنواتٌ | مُبْعَداً مُغْتَرِبا |
لم يَرَ فيها زَوْجَهُ | ولا ابنَه المحبَّبا |
وكان قد رعى الخطيبَ | ووعى ما خطَبا |
فقال : يا حارسُ | خلٍّ السُّخط والتعتُّبا |
من يُسعِفُ الناسَ إذا | نُودِي كلٌّ فأَبى |
ما الناس إخوتي ولا | آدمُ كان لي أبا |
أنظر إليَّ ، كيف أقضي | لهم ما وجَبا |
قد عشتُ في خِدمتهم | ولا تراني تعبا |
كم من غريقٍ قمت | عند رأسه مطبَّبا |
وكان جسماَ هامداً | حرّكتهُ فاضطربا |
وكنت وطَّأت له | مَناكبي، فرَكبا |
حتى أتى الشطَّ ، فبشَّ | من به ورحَّبا |
وطاردوني ، فانقلب | تُ خاسراَ مخيٍّبا |
ما نلت منهم فضة َ | ولا منحت ذهبا |
وما الجزاء ؟ لا تسل | كان الجزاءُ عجبا! |
ألقوا عليّ شبكا | وقطَّعوني إربا |
واتخذ الصٌّنَّاع من | شَحميَ زَيْتا طيِّباً |
ولم يَزَلْ إسعافُهم | ليَ الحياة َ مذهبا |
ولم يزل سَجِيَّتي | وعملي المُحبَّبا |
إذا سمعتُ صرخة ً | طرتُ إليها طربا |
لا أَجِدُ المُسْعِفَ | إلا ملكاً مقرَّبا |
والمسعفون في غدٍ | يؤلفون مَوْكبا |
يقول رِضوانُ لهم | هيَّا أدخلوها مرحبا |
مُذنِبُكم قد غَفَر | اللهُ لهُ ما أذنبا |
فديناه من زائر مرتقب
فديناهُ من زائرٍ مرتقبْ | بدا للوجودِ بمرأى عجبْ |
تَهُزُّ الجبالَ تَباشيرُهُ | كما هَزَّ عِطفَ الطَّروبِ الطَّرَب |
ويُحْلِي البحارَ بلألائهِ | فمِنَّا الكؤوسُ، ومنه الحبَب |
منارٌ الحزونِ إذا ما إعتلى | منارُ السهولِ إذا ما إنقلب |
أتانا من البحرِ في زورقٍ | لجيناً مجاذيفهُ من ذهب |
فقلنا: سُليمانُ لو لم يَمُتْ | وفرعونٌ لو حملتهُ الشُّهب |
وكِسرَى وما خَمَدتْ نارُه | ويوسُفُ لو أنه لم يشِبْ |
وهيهاتَ ما توجوا بالسَّنا | ولا عرشهم كان فوقَ السُّحب |
أنافَ على الماءِ ما بينها | وبينَ الجبالِ وشُمِّ الهضب |
فلا هو خافٍ، ولا ظاهرٌ | ولا سافرٌ، لا، ولا مُنتقِب |
وليس بِثَاوٍ، ولا راحلٍ | ولا بالبعيدِ، ولا المقترب |
تَوارَى بِنصفٍ خلالَ السُّحُبْ | ونصفٌ على جبلٍ لم يغب |
يجدِّدها آية ٍ قد خلت | ويذكرُ ميلادَ خيرِ العرب |