يقولون صوت المستذلين خافت

يَقُولونَ: «صَوْتُ المُسْتَذِلِّين خَافِتٌ وسمعَ طغاة الأرض “أطرشُ” أضخم
وفي صَيْحَة ِ الشَّعْبِ المُسَخَّر زَعْزَعٌ تَخُرُّ لَهَا شُمُّ العُرُوشِ، وَتُهْدَمُ
ولعلة ُ الحقّ الغضوضِ لها صدى ً وَدَمْدَمَة ُ الحَربِ الضَّروسِ لَهَا فمُ
إذَا التَفَّ حَوْلَ الحقِّ قَوْمٌ فَإنّهُ يُصَرِّمُ أحْدَاثُ الزَّمانِ وَيُبْرِمُ
لَكَ الوَيْلُ يَا صَرْحَ المَظَالمِ مِنْ غَدٍ إذا نهضَ المستضعفونَ، وصمّموا!
إذا حَطَّمَ المُسْتَعبِدُونَ قيودَهُمْ وصبُّوا حميمَ السُّخط أيَّان تعلمُ..!
أغَرّك أنَّ الشَّعْبَ مُغْضٍ عَلَى قَذًى وأنّ الفضاءَ الرَّحبَ وسنانُ، مُظلمُ؟
ألاّ إنَّ أحلام البلادِ دفينة ٌ تُجَمْجِمُ فِي أعْماقِهَا مَا تُجَمْجِمُ
ولكن سيأتي بعد لأي نشورها وينبث اليومُ الذي يترنَّمُ
هُوَ الحقُّ يَغْفَى .. ثُمَّ يَنْهَضُ سَاخِطاً فيهدمُ ما شادَ الظلاّمُ، ويحطمُ
غدا الرّوعِ، إن هبَّ الضعيف ببأسه، ستعلم من منّا سيجرفه الدمُّ
إلى حيث تجنى كفَّهُ بذرَ أمسهِ وَمُزْدَرعُ الأَوْجَاع لا بُدَّ يَنْدَمُ
ستجرعُ أوصابَ الحياة ، وتنتشي فَتُصْغِي إلى الحَقِّ الذي يَتَكَلَّمُ
إذا ما سقاك الدهرُ من كأسِهِ التي قُرَارَتُها صَابٌ مَرِيرٌ، وَعَلْقَمُ
إذا صعق الجبّارُ تحتَ قيوده يُصِيخُ لأوجاعِ الحَياة ِ وَيَفْهَمُ!!

يا قلب كم فيك من دنيا محجبة

يا قلبُ كم فيكَ من دُنْيا محجَّبة ٍكأنَّها حين يبدو فجرُها إرَمُ
يا قلبُ كم فيكَ من كونٍ، قد اتقدَتْفيه الشُّموسُ وعاشتْ فَوقُه الأممُ
يا قلبُ كمْ فيكَ من أفقٍ تُنَمِّقْهُكواكبٌ تتجلَّى ثُمَّ تَنعِدمُ
يا قلبُ كمْ فيكَ من قبرٍ، قد انطفَأَتْفيهالحياة ُ وضجَّت تحتُه الرِّمَمُ
يا قلبُ كمْ فيكَ من كهفٍ قد انبَجَسَتْمنه الجداولُ تجري مالها لُجُمُ
تمشي فتحملُ غُصناً مُزْهِراً نَضِراًأو وَرْدَة ً لمْ تشَوِّهْ حُسنَها قَدَمُ
أو نَحْلة ً جرَّها التَّيارُ مُندَفِعاًإلى البحارِ تُغنّي فوقها الدِّيَمُ
أو طائراً ساحراً مَيتْاً قد انفجرتْفي مُقْلَتَيْهِ جِراحٌ جَمَّة ٌ وَدَمُ
يا قلبُ إنَّك كونٌ، مُدهِشٌ عَجَبٌإنْ يُسألِ الناسُ عن آفاقه يَجِمُوا
كأنَّكَ الأبدُ المجهولُ قد عَجَزَتْعنكَ النُّهَى ، واكْفَهَرَّتْ حَوْلَكَ الظُّلَمُ
يا قلبُ كمْ من مسرَّاتٍ وأخْيِلة ِولذَّة ٍ، يَتَحَامَى ظِلَّها الألمُ
غَنَّتْ لفجرِكَ صوتاً حالماً، فَرِحاًنَشْوَانَ ثم توارتْ، وانقضَى النَّغمْ
وكم رأي لَيْلُك الأشباحَ هائمة ًمذعورة ً تتهاوى حولها الرُّجُمُ
ورَفْرَفَ الألمُ الدَّامِي، بأجنحة ٍمِنَ اللَّهيبِ، وأنَّ الحُزْنُ والنَّدَمُ
وكمْ مُشَتْ فوقكَ الدُّنيا بأجمعهاحتَّى توارتْ، وسار الموتُ والعدمُ
وشيَّدتْ حولك الأيامُ أبنية ًمِنَ الأناشيدِ تُبْنَى ، ثُمّ تَنْهدمُ
تمضي الحياة ُ بما ضيها،وحاضِرهاوتذْهَبُ الشمسُ والشُّطآنُ والقممُ
وأنتَ، أنتَ الخِضمُّ الرَّحْبُ، لا فَرَحٌيَبْقَى على سطحكَ الطَّاغي، ولا ألمُ
يا قلبُ كم قد تملَّيتَ الحياة َ، وككمْرقَّيتَها مَرَحاً، ما مَسَّك السَأمُ
وكمْ توشَّحتَ منليلٍ، ومن شَفَقٍومن صباحٍ تُوَشِّي ذَيْلَهُ السُّدُمُ
وكم نسجْتَ من الأحلام أردية ًقد مزَّقّتْها الليالي، وهيَ تَبْتَسِمُ
وكم ضَفَرتَ أكاليلاً مُوَرَّدة ًطارتْ بها زَعْزَعٌ تدوي وتَحْتَدِمُ
وَكَمْ رسمتَ رسوماً، لا تُشابِهُهَاهذي العَوَالمُ، والأحلامُ، والنُّظُمُ
كأنها ظُلَلُ الفِردَوْسِ، حافِلة ًبالحورِ، ثم تلاشَتْ، واختفى الحُلُمُ
تبلُو الحياة َ فتبلِيها وتخلَعُهاوتستجدُّ حياة ً، ما لها قِدمُ
وأنت أنتَ: شبابٌ خالدٌ، نضِرٌمِثلُ الطَّبيعة ِ لا شَيْبٌ ولا هرَمُ
قصيدة أبو القاسم الشابي

هَهُنا في خمائل الغابِ، تَحْت الزَّا

هَهُنا في خمائل الغابِ، تَحْت الزَّا ن والسِّنديانِ، والزْيتونِ
أنتِ أْشهى منَ الحياة ِ وأبْهى من جمالِ الطَّبيعة ِ الميمونِ
ما أرقَّ الشّبابَ، في جسمكِ الغضِّ وفي جيدكِ البَديعِ، الثَّمينِ!
وأدقّ الجمالَ في طرفِك السَّاهي، وفي ثغرِكِ الجميلِ، الحَزين!
وألذَّ الحياة َ حينَ تغنّيـ ـن فَأُصْغِي لصوتِكِ المحزُونِ
وأرى رُوحَكِ الجميلة َ عِطْراً ضايعاً في حلاوة التَّلحينِ!
قَدْ تَغَنَّيْتِ منذُ حينِ بصوتٍ ناعمٍ، حالمٍ، شجيٍّ حنونِ
نَغَماً كالحَياة ِ عذباً عميقاً في حنانٍ، ورقة ٍ وحنينِ
فإذا الكون قطعة ٌ من نشيد علويِّ، منغّمٍ موزونِ
فَلِمَنْ كنتِ تُنشدين؟ فقالتْ: «للضياءِ البَنفسجيِّ الحزينِ»
«للضّباب المورّد، المتلاشي كخيالات حالمٍ، مفتونِ
«للمساءِ المطلِّ لشَّفَق السّا لسحْر الأسى ، وسحْر السكونِ
للعبير الذي يرفرف في الأفقِ ويفنى ، مثلَ المنى ، في سكونِ»
للأَغاني التي يُردِّدُها الرّا عي بمزماره الصّغيرِ، الأمينِ
وبنى اللَّيلُ والرّبيعُ حواليـ نا حَيَاة َ الهوى ، وروحَ الحنينِ
ويوشِّي الوجودَ بالسحر، والأحلام والزهر، والشَّذى ، واللُّحونِ
للحياة ِ التي تغنّي حوالَيَّ، على السَّهْلِ، والرُّبى والحُزُونِ
للينابيعِ، للعصافير، للظلّ لهذا الثّرى ، لتلكَ الغصونِ
«للنَّسيمِ الذي يضمِّخُ أحلا مي بعطر الأقاح والليمونِ
«للجَمال الذي يفيضُ على لأشواق قلبيَ المَشحونِ
للزّمان الذي يوشِّح أيّامي بِضَوءِ المنى وظلِّ الشُّجونِ
للشباب السكران، للأملِ المعبودِ، لليأسِ، للأسى ، للمُنونِ
فَتَنهَّدْتُ، ثُمَّ قُلْتُ: «وقلبي مَنْ يغنّيه؟ مَنْ يُبيد شُجوني؟
قالت:الحُبُّ ثم غنّتْ لقلبي قُبَلاً عبقرية َ التلحينِ
قبلاً، علَّمتْ فؤادي الأغاني، وأنارتْ لهُ ظَلامَ السنينِ
قبلاً، تَرقصُ السعادة ُ والحبُّ على لحنِها العَميقِ الرّصينِ
..وأفقنا، فقلتُ كالحالم المسحور: قولي، تَكَلَّمي، خَبِّريني
أيُّ دنيا مسحورة ، أي رؤيا طالَعَتْني في ضوء هذي العُيونِ:»
زمرٌ من ملائكِ الملأِ الأعلى يغنّون في حُنُوِّ حَنونِ
«وصبايا رواقصٌ، يتراشقْ بزهر التُّفاحِ واليَاسمينِ
في فضاءٍ، مُوَرَّدٍ، حالمٍ سا هٍ أطافتْ به عذارى الفُنونِ»
«وجحيمٍ تَؤُجُّ تَحْتَ فرادِيـ كأحلامِ شاعرٍ مَجنونِ؟
«أيُّ خمرٍ مؤجَّجٍ ولهيبٍ مُسكرٍ؟ أيّ نشوة ، وجنونِ؟
أي خمرٍ رشفتُ، بل أيّ نارٍ في شفاهٍ، بديعة ِ التَّكْوينِ»
«واسمعي الغابَ، فهو قيتارة ُ الكون…….
أي إثمٍ مقدَّسٍ، قد لبسنا بُرْدَهُ في مسائنا الميمونِ؟»
فبَدَا طيفُ بسمة ٍ، ساحرٌ عذبٌ، على ثَغرِها، قويُّ الفتونِ………
وأجابتْ- وكلّها فتنة ٌ تُغوي، وتُغري بالحبِّ، بلْ بالجنونِ ـ:
كلُّ زهرِ يَضُوعُ منه أريجٌ من بخُورِ الرّبيعِ، جَمُّ الفُتونِ
ونجومُ السماء فيه شموعٌ أَوْقَدَتْها للحُبِّ رُوحُ القرونِ
طهَّري يا شقيقة َ الروحِ ثَغْري بلهيبِ الحياة ِ، بَلْ قبِّليني»
«قبِّليني، وَأَسْكِري ثغريَ الصَّا مت وقلبي، وفِتنتي، وجنوني
علَّني أستطيعُ أَنْ أتغنّى لجمال الدّجى بوَحي العُيونِ
«آه ما أجملَ الظَّلامَ! وأقوى وحيه في فُؤادي المَفْتونِ!
أنظري الليلَ فهو في حلّة ظ ـلام يمشي على الذُّرى والحُزُونِ»
واسمعي الغاب،فهو قيثارة ُ الكونِ نِ تغنّي لحبنا الميمونِ»
إن سِحْرَ الضَّباب، واللّيلِ، والغَا بِ، بعيدُ المدى ، قويُّ الفُتونِ
وجمالُ الظّلام يعبقُ بالأحلامِ والحبّ… فابسمي، والثمينِ…
آه: ما أعذَبَ الغرامَ! وأحلى رَنَّة َ اللَثمِ في خشوع السَكونِ!
.. وَسَكِرْنا هناك.. في عالم الأحـ بة تحتَ السَّماء، تحتَ الغُصونِ…
وتوارى الوجودُ عنّا بما فيـ وغبْنا في عالَم مَفْتونِ…
ونسينا الحياة ، والموتَ، والسُّكو ن وما فيه مِنْ مُنّة ومَنونِ

ما كنتُ أحْسَبُ بعدَ موتَك يا أبي

ما كنتُ أحْسَبُ بعدَ موتَك يا أبي ومشاعري عمياء بأحزانِ-
أني سأظمأُ للحياة ِ، وأحتسي مِنْ نهْرها المتوهِّجِ النّشوانِ
وأعودُ للدُّنيا بقلبٍ خَافقٍ للحبِّ، والأفراحِ، والألحانِ
ولكلِّ ما في الكونِ من صُوَرِ المنى وغرائبِ الأهُواء والأشجانِ
حتى تحرّكتِ السّنون، وأقبلتْ فتنُ الحياة ِ بسِحرِها الفنَّانِ
فإذا أنا ما زلتُ طفِْلاً، مُولَعاً بتعقُّبِ الأضواءِ والألوانِ
وإذا التشأوُمُ بالحياة ِ ورفضُها ضرْبٌ من الُبهتانِ والهذيانِ
إنَّ ابنَ آدمَ في قرارة ِ نفسِهِ عبدُ الحياة ِ الصَّادقُ الإيمانَ

ياربَّة َ الشّعرِ والأحلامِ، غنِّيتي

ياربَّة َ الشّعرِ والأحلامِ، غنِّيتي فقد سئمت وجومَ الكَوْنِن من حينِ
إن اللَّيالي اللَّواتي ضمَّختْ كَبِدي بالسِّحْر أضْحتْ مع الأيَّامِ ترميني
ناخت بنفسي مآسيها، وما وجدتْ قلباً عطوفاً يُسَلِّيها، فَعزِّيني
وَهَدّ مِنْ خَلَدِي نَوْحٌ، تُرَجِّعُه بَلوى الحياة ِ، وأحزانُ المساكينِ
على الحياة أنا أبكي لشقوتِها فَمَنْ إذا مُتُّ يبكيها ويبكيني؟
يا ربة السِّعرِ، غنِّني، فقد ضجرت نفسي من النّاس أبناء الشياطين
تَبَرَّمَتْ بَيْنيَ الدُّنيا، وَأَعوزَهَا في مِعزفِ الدَّهرِ غرِّيدُ الأَرانينِ
وَرَاحَة ُ اللَّيل ملأى مِنْ مَدَامِعِهِ و غادة ُ الحُبّ ثكلى ، لا تغنِّنيني
فهل إذا لُذت بالظلماء منتحباً أسلو؟ وما نفعُ محزونٍ لمَحزونِ؟
يا ربة َ الشعر! إن يائسٌ، تعسٌ عَدِمْتُ ما أرتجي في العالَم الدُّونِ
وفي يديكِ مزاميرٌ يُخَالِجُها وحي السَّما فهاتيها وغنّيني
ورتِّلي حولَ بيتِ الحُزْن أغْنِيَة ً تجلُو عن النَّفسِ أحوانَ الأحايينِ
فإن قلبي قبرٌ، مظلمٌ،قُبرتْ فيه الأمانِي، فما عادتْ تناغيني
لولاك في هذه الدنيا لما لمست أوتارَ رُوحِيَ أَصْواتُ الأفَانينِ
ولا تغنَّيتُ مأخوذاً..، ولا عذُبتْ لي الحياة ُ لدى غضِّ الرياحينِ
ولا ازدهى النَّفْسَ في أشْجَانَها شَفَقٌ يُلوِّنُ الغيمَ لهواً أيَّ تلوينِ
ولا استخفَّ حياتي وهي هائمة ٌ فجرُ الهوى في جفون الخُرَّدِ العِينِ

إن هذه الحياة قيثارة الله

إنَّ هذي الحَيَاةَ قيثارَةُ اللهِ – وأَهْلُ الحَيَاةِ مِثْلُ اللًّحُونِ
نَغَمٌ يَسْتَبي المَشاعِرَ كالسِّحْرِ – وصَوْتٌ يُخِلُّ بالتَّلْحينِ
واللَّيالي مَغَاوِرٌ تُلْحِدُ اللَّحْنَ – وتَقْضي على الصَّدى المِسْكِينِ
أبيات شاعر تونس أبو القاسم الشابي