أنتَ يا شعرُ، فلذة ٌ من فؤادي

أنتَ يا شعرُ، فلذة ٌ من فؤادي تتغنَّى ، وقطعة ُ من وجودي
فيكَ مَا في جوانحي مِنْ حَنينٍ أبديِّ إلى صَميم الوجودِ
فيكَ مَا في خواطري من بكاءٍ فيك ما في عواطفي مِنْ نَشيدِ
فيكَ ما في مَشَاعري مِنْ وُجومٍ لا يغنِّي، ومن سرور عهيدِ
فيكَ ما في عَوَالمي مِنْ ظلامٍ سرمديّ، ومن صباحٍ وليدِ
فيكَ ما في عَوَالمي من نجومٍ ضاحكاتٍ خلف الغمام الشرودِ
فيكَ ما في عَوَالمي من ضَبَابِ وسراب، ويقظة ، وهجودِ
فيكَ ما في طفولتي مِنْ سلامٍ، وابتسامٍ، وغبطة ٍ، وَسُعودِ
فيكَ ما في شبيتي من حنينٍ، وشجون، وبهجة ، وجمودِ
فيك- إن عانق الربيع فؤادي تتثنَّى سَنَابلي وَوُرُودي
ويغنى الصّباحُ أنشودة َ الحب، على مَسْمَعِ الشَّبابِ السَّعيدِ
ثم أجنى في صيْف أحلاميَ الساحر ما لذَّ من ثمار الخلودِ
فيك يبدو خريفُ نفسي مَلُولاً، شاحبَ اللون، عاريَ الأملود
حَلَّلْته الحَياة ُ بالحَزَنِ الدّا هُتافُ السَّؤُوم والمُسْتَعيدِ
فيك يمشي شتاءُ أيَّاميَ البا كي، وتُرغي صَوَاعقي وَرُعُودي
وتجفُّ الزهورُ في قلبيَ الدا جي، وَتَهْوي إلى قرارٍ بعيدِ.
أنت يا شعرُ-قصة ٌ عن حَياتي أنت يا شعرُ صورة ٌ من وجودي
أنت يا شعر-إن فرحتُ-أغاريدي وإن غنَّت الكآبة -عودي
أنت ياشعرُ كأسُ خمرٍ عجيبٍ أتلَّهى به خلال اللحودِ..
أتحسَّاهُ في الصَّباحِ، لأنسى ما تقضَّى في أمسيَ المفقودِ
وأناجيه في المساءِ، لِيُلْهِيَني
أنتَ ما نِلْتُ من كهوفِ الليالي وتصفَّحتُ من كتاب الخلودِ
فيك ما في الوجودِ مِنْ حَلَكٍ، دا جٍ، وما فيه من ضياءٍ، بَعيدِ
فيك ما في الوجودِ من نَغَمٍ، حُلْوٍ، وما فيه مِن ضَجيجٍ، شَديدِ
فيك ما في الوجودِ مِنْ جَبَلٍ، وعْرٍ، وما فيه من حَضِيضٍ، وَهِيدِ
فيك ما في الوجودِ من حَسَكٍ، يُدْمِي، وما فيه من غَضيضِ الورودِ

يودُّ الفَتَى لو خاضَ عاصفة َ الرّدى

يودُّ الفَتَى لو خاضَ عاصفة َ الرّدى وصدَّ الخميسَ المَجْرَ، والأسَدَ الوَرْدَا
لِيُدْرِكَ أمجادَ الحُروبِ، وَلَوْ دَرى حَقِيقَتَها مَا رام مِنْ بيْنها مَجْدا
فَما المجدُ في أنْ تُسْكِرَ الأرضَ بالدِّما وتركَبَ في هيجائها فرَساً نهْدَا
ولكنّه في أن تَصُدَّ بهمَّة ٍ عن العالَمِ المرزوءِ، فيْضَ الأسى صدَّا

لحن الحياة

إذا الشعبُ يوما أراد الحياةفلا بد أن يستجيب القـدر
ولا بـد لليـل أن ينجليولا بـد للقيـد أن ينكسـر
ومن لم يعانقْـه شـوْقُ الحياةتبخر فــي جوها واندثر
فويل لمن لم تَشُـقهُ الحياة من صفْعـة العــدَم المنتصر
كـذلك قـالت ليَ الكائناتُوحدثني روحُها المستترْ
ودمــدمتِ الــرِّيحُ بيــن الفِجـاجوفوق الجبال وتحت الشجرْ
إذا ما طمحتُ إلــى غايةٍركبتُ المُنى, ونسِـيت الحذرْ
ولــم أتجــنَّب وعــورَ الشِّـعابولا كُبَّةَ اللّهَب المستعرْ
ومن يتهيب صعود الجباليعش أبَــدَ الدهــر بيــن الحفرْ
فعجَّــتْ بقلبــي دمــاءُ الشـبابوضجَّــت بصـدري ريـاحٌ أخَـرْ
وأطـرقتُ, أصغـي لقصـف الرعـودِوعــزفِ الريــاحِ, ووقـعِ المطـرْ
وقـالت لـي الأرضُ  لمـا سـألتأيــا أمُّ هــل تكــرهين البشــر
أُبــارك فـي النـاس أهـلَ الطمـوحومــن يســتلذُّ ركــوبَ الخــطرْ
وألْعــنُ مــن لا يماشــي الزمـانَويقنـــع بــالعيْشِ عيشِ الحجَــرْ
هــو الكــونُ حـيٌّ, يحـبُّ الحيـاةويحــتقر المَيْــتَ, مهمــا كــبُرْ
فـلا الأفْـق يحـضن ميْـتَ الطيـورِولا النحــلُ يلثــم ميْــتَ الزهـرْ
ولــولا أمُومــةُ قلبِــي الــرّؤوملَمَــا ضمّــتِ الميْـتَ تلـك الحُـفَرْ
فــويلٌ لمــن لــم تشُــقه الحيـاة, مِــن لعنــة العــدم المنتصِـرْ
وفــي ليلــة مـن ليـالي الخـريفمثقَّلـــةٍ بالأســـى, والضجــرْ
ســكرتُ بهـا مـن ضيـاء النجـوموغنَّيْــتُ للحُــزْن حــتى ســكرْ
سـألتُ الدُّجـى: هـل تُعيـد الحيـاةُلمـــا أذبلتــه, ربيــعَ العمــر
فلـــم تتكلّم شــفاه الظــلامولــم تــترنَّمْ عــذارى السَّــحَرْ
وقال ليَ الغــابُ في رقَّـةٍمُحَبَّبَـــةٍ مثــل خــفْق الوتــرْ
يجــئ الشــتاءُ شــتاء الضبـابشــتاء الثلــوج, شــتاء المطــرْ
فينطفــئُ السِّـحرُ سـحرُ الغصـونِوســحرُ الزهــورِ, وسـحرُ الثمـرْ
وســحرُ السـماءِ الشـجيُّ الـوديعُوســحرُ المـروجِ, الشـهيُّ, العطِـرْ
وتهـــوِي الغصــونُ وأوراقُهــاوأزهــارُ عهــدٍ حــبيبٍ نضِــرْ
وتلهــو بهـا الـريحُ فـي كـل وادٍويدفنُهَــا الســيلُ أنَّــى عــبرْ
ويفنــى الجــميعُ كحُــلْمٍ بــديعٍتـــألّق فـــي مهجــةٍ واندثــرْ
وتبقــى البــذورُ, التــي حُـمِّلَتْذخــيرةَ عُمْــرٍ جــميلٍ غَــبَرْ
وذكــرى فصــولٍ ورؤيـا حيـاةٍوأشــباحَ دنيــا تلاشــتْ زُمَـرْ
معانقــةً وهـي تحـت الضبـابِوتحــت الثلـوجِ وتحـت المَـدَرْ
لِطَيْــفِ الحيــاةِ الــذي لا يُمَــلُّوقلــبِ الــربيعِ الشــذيِّ الخـضِرْ
وحالمـــةً بأغـــاني الطيـــورِوعِطْــرِ الزهــورِ, وطَعـمِ الثمـرْ
ويمشـي الزمـانُ, فتنمـو صـروفٌوتــذوِي صــروفٌ, وتحيـا أُخَـرْ
وتُصبِـــحُ أحلامُهـــا يقظَـــةًمُوَشَّـــحةً بغمـــوضِ السَّــحَرْ
تُســائل: أيــن ضبـابُ الصبـاحِوسِــحْرُ المسـاء? وضـوء القمـر
وأســرابُ ذاك الفَــراشِ الأنيــقونحــلٌ يغنِّــي, وغيــمٌ يمــر
وأيـــن الأشـــعَّةُ والكائنــاتُوأيــن الحيــاةُ التــي أنتظــر
ظمِئـتُ إلـى النـور, فـوق الغصونِظمِئـتُ إلـى الظـلِ تحـت الشـجرْ
ظمِئـتُ إلـى النَّبْـعِ, بيـن المـروجِيغنِّــي, ويــرقص فـوقَ الزّهَـرْ
ظمِئــتُ إلــى نَغَمــاتِ الطيـورِوهَمْسِ النّســيمِ, ولحــنِ المطــرْ
ظمِئـتُ إلـى الكـونِ! أيـن الوجـودُوأنَّـــى أرى العــالَمَ المنتظــر
هـو الكـونُ, خـلف سُـباتِ الجـمودِوفـــي أُفــقِ اليقظــاتِ الكُــبَرْ
ومـــا هــو إلا كخــفقِ الجنــاحِ حــتى نمــا شــوقُها وانتصـرْ
فصَـــدّعت الأرضَ مــن فوقهــاوأبْصــرتِ الكـونَ عـذبَ الصُّـوَرْ
وجـــاء الـــربيعُ, بأنغامِـــهوأحلامِـــه, وصِبـــاه العطِــرْ
وقبَّلهـــا قُبَـــلاً فــي الشــفاهِتعيــدُ الشــبابَ الــذي قـد غَـبَرْ
وقــال لهــا: قـد مُنِحْـتِ الحيـاةَوخُــلِّدْتِ فــي نســلكِ المُدّخَــرْ
وبـــاركَكِ النُّـــورُ, فاســتقبليشــبابَ الحيــاةِ وخِــصْبَ العُمـرْ
ومَــن تعبــدُ النــورَ أحلامُــهيُبَارِكُـــهُ النّــورُ أنّــى ظهــرْ
إليــكِ الفضــاءَ, إليــكِ الضيـاءَإليــك الــثرى, الحـالمَ, المزدهـرْ
إليــكِ الجمــالَ الــذي لا يَبيــدُ!إليــكِ الوجـودَ, الرحـيبَ, النضِـرْ
فميـدي كمـا شئتِ فوق الحقولِبحــلوِ الثمــارِ وغــضِّ الزّهَــرْ
ونــاجي النســيمَ ونـاجي الغيـومَونــاجي النجــومَ, ونـاجي القمـرْ
ونـــاجي الحيـــاةَ وأشــواقَهاوفتنــةَ هــذا الوجــود الأغــرْ
وشـفَّ الدجـى عـن جمـالٍ عميـقٍيشُــبُّ الخيــالَ, ويُــذكي الفِكَـرْ
ومُــدّ عـلى الكـون سِـحرٌ غـريبٌيُصَرّفــــه ســـاحرٌ مقتـــدرْ
وضـاءت شـموعُ النجـومِ الوِضـاءِوضــاع البَخُــورُ, بخـورُ الزّهَـرْ
ورفــرف روحٌ غــريبُ الجمـالبأجنحــةٍ مــن ضيــاء القمــرْ
ورنَّ نشـــيدُ الحيـــاةِ المقـــدّسُ فــي هيكـلٍ, حـالمٍ قـد سُـحِرْ
وأعْلِــنَ فــي الكـون أنّ الطمـوحَلهيـــبُ الحيــاةِ ورُوحُ الظفَــرْ
إذا طمحـــتْ للحيـــاةِ النفــوسُفــلا بــدّ أنْ يســتجيبَ القــدر
من أشعار أبو القاسم الشابي

يا ليلُ! ما تصنعُ النفسُ التي سكنتْ

يا ليلُ! ما تصنعُ النفسُ التي سكنتْ هذا الوجودَ، ومِنْ أعدائها القَدَرُ؟
ترضى وَتَسْكُتُ؟ هذا غيرُ محتَمَلٍ! إذاً، فهل ترفضُ الدنيا، وتنتحرُ؟
وذا جنونٌ، لَعَمْري، كلُّه جَزَعٌ باكٍ، ورأيٌ مريضٌ، كُلُّه خَوَرُ!
فإنما الموتُ ضَرْبٌ من حَبائِله لا يُفلتُ الخلقُ ما عاشوا، فما النَّظرُ؟
هذا هو اللّغْزُ، عَمَّاهُ وعَقَّدَهُ على الخليقة ِ، وحْشٌ، فاتكٌ حذِرُ
قد كَبَّلَ القدرُ الضّاري فرائسَه فما استطاعُو له دفْعاً، ولا حَزَروا
وخاطَ أعينَهم، كي لا تُشَاهِدَهُ عينٌ، فتعلمَ ما يأتي وما يذرُ
وَحَاطَهُمْ بفنونٍ من حَبَائِلِهِ فما لَهُمْ أبداً مِنْ بطشِه وَزرُ
لا الموتُ يُنقذُهم من هَوْل صولَتهِ ولا الحياة ُ، تَسَاوَى النّاسُ والحَجَرُ!
حَارَ المساكينُ، وارتاعُوا، وأَعْجَزَهم أن يحذروهُ، وهَلْ يُجْديهمُ الحذرُ
وَهُمْ يعيشونَ في دنيا مشيَّدة ٍ منَ الخطوب، وكونٍ كلَّه خَطرُ؟
وكيف يحذرُ أعمَى ، مُدْلِجٌ، تَعِبٌ هولَ الظَّلامِ، ولا عَزمٌ ولا بَصَرُ؟
قد أيقنوا أنه لا شيءَ يُنقذهُم فاستسلموا لِسُكُونِ الرُّعْبِ، وانتظروا..
ولو رأوه لسَارتْ كي تحارِبَه مِنَ الورى زُمَرٌ، في إثرِهَا زُمَرُ
وثارت الجنّ، والأملاك ناقمة ً والبحرُ، والبَرُّ، والأفلاكُ، والعُصُر
لكنه قوَّة ٌ تُملي إرادتها سِرَّا، فَنَعْنو لها قهراً، ونأتمرُ
حقيقة مُرَّة ، يا ليلُ، مُبْغَضَة ٌ كالموت، لكنْ إليها الوِرْدُ والصَّدَرُ
تَنَهَّدَ اللَّيْلُ، حتَّى قلتُ: «قد نُثِرَتْ تلك النجومُ، ومات الجنُّ والبشرُ
وَعَاد للصّمتِ..، يُصغي في كآبته كالفيلسوف-إلى الدنيا، ويفتكرُ..
وقَهْقَهَ القَدرُ الجبّارُ، سخرية ً بالكائنات. تَضَاحَكْ أيّها القدرُ!
تمشي إلى العَدَمِ المحتومِ، باكية ً طوائفُ الخلق، والأشكالُ والصورُ
وأنتَ فوقَ الأسى والموت، مبتسمٌ ترنو إلى الكون، يُبْنَى ، ثمّ يندَثِرُ

يَا أيُّها الشَّادِي المغرِّدُ ههُنا

يَا أيُّها الشَّادِي المغرِّدُ ههُنا ثَمِلاً بِغِبْطة ِ قَلْبِهِ المَسْرُورِ
مُتَنَقِّلاً بينَ الخَمائلِ، تَالِياً وحْيَ الربيعِ السّاحرِ المسحورِ
غرّدْ، ففي تلك السهول زنابقٌ تَرْنُو إليكَ بِنَاظرٍ مَنْظُورِ
غرِّدْ، ففي قلبي إليْك مودَّة ٌ لكن مودَّة طائر مأسورِ
هَجَرَتْهُ أَسْرابُ الحمائمِ، وانْبَرَتْ لِعَذَابِهِ جنِّية ُ الدَّيْجُورِ…
غرِّد، ولا ترهَبْ يميني، إنّني مِثْلُ الطُّيورِ بمُهْجَتي وضَمِيري
لكنْ لقد هاضَ الترابُ ملامعي فَلَبِثْتُ مِثْلَ البُلبلِ المَكْسُورِ
أشدُو برنّاتِ النِّياحَة ِ والأسى مشبوبة بعواطفي وشعوري
غرِّدْ، ولا تحفَلْ بقلبي، إنّهُ كالمعزَفِ، المتحطِّمِ، المهجورِ
رتِّل عَلى سَمْع الرَّبيعِ نشيدَهُ واصدحْ بفيضِ فؤادك المسجورِ
وکنْشِدْ أناشيدَ الجَمال، فإنَّها روحُ الوجود، وسلوة المقهورِ
أنا طَائرٌ، مُتَغرِّدٌ، مُتَرنِّمٌ لكِنْ بصوتِ كآبتي وَزَفيري
يهتاجُني صوتُ الطّيور، لأنَّه مُتَدَفِّقٌ بحرارة وطَهورِ
ما في وجود النَّاس مِنْ شيءٍ به يَرضَى فؤادي أو يُسَرُّ ضميري
فإذا استمعتُ حديثَهم أَلْفَيْتُهُ غَثّاً، يَفِيض بِركَّة ٍ وَفُتُورِ
وإذا حَضَرْتُ جُمُوعَهُمْ ألْفَيتَنِي ما بينهم كالبلبل المأسورِ
متوحِّداً بعواطفي، ومشاعري، وَخَوَاطِري، وَكَآبتي، وَسُروري
يَنْتَابُنِي حَرَجُ الحياة كأنّني مِنْهمْ بِوَهْدَة جَنْدلٍ وَصُخورِ
فإذا سَكَتُّ تضجَّروا، وإذا نَطَقْتُ تذمَّروا مِنْ فكْرَتي وَشُعوري
آهٍ مِنَ النَّاسِ الذين بَلَوْتُهُمْ فَقَلَوْتُهُمْ في وحشتي وَحُبُوري!
ما منهم إلا خبيثٌ غادرٌ متربِّصٌ بالنّاس شَرَّ مصيرِ
وَيَودُّ لو مَلَكَ الوُجودَ بأسره ورمى الوَرى في جاحِمٍ مسجورِ
لِيُبلَّ غُلَّتَهُ التي لا ترتوي ويكظّ نهمة قلبه المغفورِ
وإذا دخلتُ إلى البلاد فإنَّ أفكا ـكاري تُرَفْرِفُ في سُفوح الطُّورِ
حيثُ الطبيعة ُ حلوة ٌ فتَّانَة ٌ تختال بين تَبَرُّجِ وَسُفُورِ
ماذا أودُّ من المدينة ، وهي غارقة ٌ بموَّار الدَّم المهْدورِ
ماذا أودُّ من المدينة ، وهي لا ترثي للصوتِ تَفجُّع المَوْتُورِ؟
ماذا أودُّ من المدينة ، وهي لا تَعْنو لِغَير الظَّالمِ الشَّرِّيرِ؟
ماذا أودُّ من المدينة ، وهي مُرْتادٌ لكل دعارة وفجورِ؟
يا أيُّها الشَّادي المغرِّدُ ههنا ثَمِلاً بغبطة قَلْبهِ المسرورِ!
قبِّلْ أزاهيرَ الربيعِ، وغنِّها رنَمَ الصّباحِ الضَاحكِ المحبورِ
واشربْ مِنَ النَّبع، الجميل، الملتوي ما بين دَوْحِ صنوبر وغدير
وکتْرُكْ دموعَ الفَجْرِ في أوراقِها حتَّى تُرشِّفَهَا عَرُوسُ النُّورِ
فَلَرُبَّما كانتْ أنيناً صاعداً في اللَّيل مِنْ متوجِّعٍ، مَقْهورِ
ذرفته أجْفان الصباح مدامعاً ألاّقة ، في دوحة وزهورِ… ‍‍‍‍‍

عِشْ بالشُّعورِ، وللشُّعورِ، فإنَّما

عِشْ بالشُّعورِ، وللشُّعورِ، فإنَّما دنياكَ كونُ عواطفٍ وشعورِ
شِيدَتْ على العطْفِ العميقِ، وإنّها لتجفُّ لو شِيدتْ على التفكيرِ
وَتَظَلُّ جَامِدَة الجمالِ، كئيبة ً كالهيكلِ، المتهدِّم، المهجورِ
وَتَظَلُّ قاسية َ الملامحِ، جهْمة ً كالموتِ..، مُقْفِرة ً، بغير يرورِ
لا الحبُّ يرقُصُ فوقها متغنِّياً للنّاسِ، بين جَداولٍ وزهورِ
مُتَوَرِّدَ الوَجناتِ سكرانَ الخطا يهتزُّ من مَرَح، وفرْط حبورِ
متكلِّلاً بالورْدِ، ينثرُ للورى أوراقَ وردِ “اللَّذة ِ” المنضورِ
كلاَّ‍! ولا الفنُّ الجميلُ بظاهرٍ في الكون تحتَ غمامة ٍ من نورِ
مَتَوشِّحاً بالسِّحر، ينفْخ نايَهُ ـبوبَ بين خمائلٍ وغديرِ
أو يلمسُ العودَ المقدّسَ، واصفاً للموت، للأيام، للديجورِ
ما في الحياة من المسرَّة ِ، والأسى والسِّحْر، واللَّذاتِ، والتغريرِ
أبَداً ولا الأملُ المُجَنَّحُ مُنْشِداً فيها بصوتِ الحالم، المَحْبُورِ
تلكَ الأناشيدُ التي تَهَبُ الورى عزْمَ الشَّبابِ، وَغِبْطة العُصْفورِ
واجعلْ شُعورَكَ، في الطَّبيعة قَائداً فهو الخبيرُ بتِيهما المسْحورِ
صَحِبَ الحياة َ صغيرة ً، ومشى بها بين الجماجم، والدَّمِ المهدورِ
وعَدَا بهَا فوقَ الشَّواهِق، باسماً متغنِّياً، مِنْ أعْصُرِ وَدُهورِ
والعقلُ، رغْمَ مشيبهِ ووقَاره، ما زالَ في الأيّامِ جِدَّ صغيرِ
يمشي..، فتصرعه الرياحُ..، فَيَنْثَنِي مُتوجِّعاً، كالطّائر المكسورِ
ويظلُّ يَسْألُ نفسه، متفلسفاً متَنَطِّساً، في خفَّة ٍ وغُرورِ:
عمَّا تُحَجِّبُهُ الكواكبُ خلفَها مِنْ سِرِّ هذا العالَم المستورِ
وهو المهشَّمُ بالعواصفِ.. يا لهُ من ساذجٍ متفلسفٍ، مغرور!
وافتحْ فؤادكَ للوجود، وخلَّه لليمِّ للأمواج، للدّيجورِ
للثَّلج تنثُرُهُ الزوابعُ، للأسى للهَوْلِ، للآلامِ، للمقدورِ
واتركْه يقتحِمُ العواصفَ..، هائماً في أفقِها، المتلبّدِ، المقرورِ
ويخوضُ أحشاءَ الوجود..، مُغامِراً في ليْلِها، المتَهَّيبِ، المحذورِ
حتَّى تعانقَه الحياة ُ، ويرتوي من ثغْرِها المتأجِّجِ، المسجورِ
فتعيشَ في الدنيا بقلبٍ زاجرٍ يقظِ المشاعرِ، حالمٍ، مسحورِ
في نشوة ٍ، صُوفيَّة ٍ، قُدسية ٍ، هيَ خيرُ ما في العالمِ المنظورِ