ليتَ لي أن أعيشَ هذهِ الدنيّا | سَعيداً بِوَحْدتي وانفرادي |
أَصرِفُ العْمْرَ في الجبالِ، وفي الغاباتِ | بينَ الصنوبّر الميّادِ |
ليس لي من شواغل العيش ما يصرفُ | نفسي عن استماعِ فؤادي |
أرقبُ الموتَ، والحياة َ وأصغي | لحديثِ الآزال والآبادِ |
وأغنيّ مع البلابل في الغابِ، | وأصغيِ إلى خرير الوادي |
وَأُناجي النُّجومَ والفجرَ، والأَطيارَ | والنّهرَ، والضّياءَ الهادي |
عيشة ً للجمالِ، والفنِ، أبغيها | بعيداً عَنْ أمتَّي وبلادي |
لا أعنِّي نفسي بأحزانيِ شعبي | فهو حيٌّ يعيشُ عيشَ الجمادِ! |
وبحسبي مِنَ الأسى ما بنفسي | من طريفٍ مُسْتَحْدَثٍ وتِلادِ |
وبعيداً عن المدينة ، والنّاس، | بعيداً عن لَغْوِ تلك النّوادي |
فهو من معدنِ السّخافة والإفك | ومن ذلك الهُراء العادي |
أين هوَ من خريرِ ساقية الوادي | وخفقِ الصدى ، وشدوِ الشادي |
وَحَفيفِ الغصونِ، نمَّقها الطَّلُّ | وَهَمْسِ النّسيمِ للأوْراد؟ |
هذهِ عِيشة ٌ تقدِّسُها نفسي | وأدعُو لمجدها وأنادي |
أبو القاسم الشابي
الشاعر أبو القاسم بن محمد بن أبي القاسم الشابي الملقب بشاعر الخضراء, شاعر مميز من شعراء العصر الحديث, من تونس.
في جِبال لهمومِ، أننبتَّ أغصاني،
في جِبال لهمومِ، أننبتَّ أغصاني، | فَرَقّتْ بينَ الصُّخُورِ بِجُهْدِ |
وَتَغَشَّانيَ الضَّبَابُ..، فأورقتُ | وأزهرتُ للعواضف، وحْدي |
وتمايلتُ في الظَّلام، وعطَّرتُ | فضاءَ الأَسى بأنفاس وردي |
وبمجد الحياة ِ، والشوقِ غّنَّيْتُ..، | فلم تفهم الأعَاصيرُ قصدي |
وَرَمَتْ للوهادِ أفنانيَ الخضْرَ، | وظلّتْ في الثَّلْجِ تحفر لَحْدِي |
ومَضتْ بالشَّذى فَقُلْتُ: «ستبني | في مروجِ السّماءِ بالعِطْر مَجْدي» |
وَتَغَزَلْتُ بالرَّبيعِ، وبالفجرِ | فماذا ستفعلّ الرّيحُ بَعدِي؟ |
أنتِ كالزهرة ِ الجميلة ِ في الغاب،
أنتِ كالزهرة ِ الجميلة ِ في الغاب، | ولكنْ مَا بينَ شَوكٍ، ودودِ |
والرياحينُ تَحْسَبُ الحسَكَ الشِّرِّيرَ | والدُّودَ من صُنوفِ الورودِ |
فافهمي النَاسَ..، إنما النّاسُ خَلْقٌ | مُفْسِدٌ في الوجودِ، غيرُ رشيدِ |
والسَّعيدُ السَّعيدُ من عاشَ كاللَّيل | غريباً في أهلِ هَذا الوجودِ |
وَدَعِيهِمْ يَحْيَوْنَ في ظُلْمة ِ الإثْمِ | وعِيشيي في ظهرك المحمودِ |
كالملاك البريءِ، كالوردة البيضاءَ، | كالموجِ، في الخضمَّ البعيدَ |
كأغاني الطُّيور، كالشَّفَقِ السَّاحِرِ | كالكوكبِ البعيدِ السّعيدِ |
كَثلوجِ الجبال، يغَمرها النورُ | وَتَسمو على غُبارِ الصّعيدِ |
أنتِ تحتَ السماء رُوحٌ جميلٌ | صَاغَهُ اللَّهُ من عَبيرِ الوُرودِ |
وبنو الأرض كالقرود،وما أضـ | أضْيَعَ عِطرَ الورودِ بين القرودِ! |
أنتِ من ريشة الإله، فلا تُلْقِ | ي بفنِّ السّما لِجَهْلِ العبيدِ |
أنت لم تُخْلَقي ليقْربَكِ النَّاسُ | ولكن لتُعبدي من بعيدِ… |
أَتَفنى ابتساماتُ تَلك الجفونِ؟
أَتَفنى ابتساماتُ تَلك الجفونِ؟ | ويخبو توهُّجُ تلكَ الخدودْ |
وتذوي وُرَيْداتُ تلك الشِّفاهِ؟ | وتهوِي إلى التُّرْبِ تلكَ النُّهودْ؟ |
وينهدُّ ذاك القوامُ الرَّشيقُ | وينحلُّ صَدْرٌ، بديعٌ، وَجِيدْ |
وتربدُّ تلكَ الوحوهُ الصًّباحُ | وكلٌّ ـ إذا ما سألنا الحياة ـ |
ويغبرُّ فرعٌ كجنْحِ الظَّلامِ | أنيقُ الغدائر، جعدٌ، مديدْ |
ويُصبحُ في ظُلُماتِ القبورِ | هباءً، حقيراً، وتُرْباً، زهيدْ |
وينجابُ سِحْرُ الغَرامِ القويِّ | وسُكرُ الشَّبابِ، الغريرِ، السّعيدْ |
أتُطوَى سماواتُ هذا الوجودِ؟ | ويذهبُ هذا الفَضاءُ البعيدْ؟ |
وتَهلِكُ تلكَ النُّجومُ القُدامى ؟ | ويهرمُ هذا الزّمانُ العَهيدْ؟ |
ويقضِي صَباحُ الحياة ِ البديعُ؟ | وليلُ الوجودِ، الرّهيبُ، العَتيدْ؟ |
وشمسٌ توشِّي رداءَ الغمامِ؟ | وبدرٌ يضيءُ، وغَيمٌ يجودْ؟ |
وضوءٌ، يُرَصِّع موجَ الغديرِ؟ | وسِحْرٌ، يطرِّزُ تلكَ البُرودْ؟ |
جليلاً، رهيباً، غريباً، وَحيدْ | يضجُّ، ويدوي دويَّ الرّعودْ؟ |
وريحٌ، تمرُّ مرورَ المَلاكِ، | وتخطو إلى الغاب خَطَوَ الوليدْ؟ |
وعاصفة ٌ من بناتِ الجحيم، | كأنَّ صداها زئير الأسودْ |
تَعجُّ، فَتَدْوِي حنايا الجبال | وتمشي، فتهوي صُخورُ النُّجودْ؟ |
وطيرٌ، تغنِّي خِلالَ الغُصونِ، | وتهتف ُللفجر بين الورود؟ |
وزهرٌ، ينمِّقُ تلك التلال | وَيَنْهَل من كلِّ ضَوءٍ جَدِيدْ؟ |
ويعبَقُ منه أريجُ الغَرامِ | ونفحُ الشباب، الحَييّ، السعيد |
أيسطو على الكُلِّ ليلُ الفَناءِ | ليلهُو بها الموتُ خَلْفَ الوجودْ.. |
وَيَنْثُرَهَا في الفراغِ المُخِيفِ | كما تنثرُ الوردَ ريحٌ شَرود |
فينضبُ يمُّ الحياة ِ، الخضيمُّ | ويَخمدُ روحُ الربيع، الولود |
فلا يلثمُ النُّورُ سِحْرَ الخُدودِ | ولا تُنبِتُ الأرضُ غضَّ الورود |
كبيرٌ على النَّفسِ هذا العَفَاءُ! | وصعبٌ على القلب هذا الهموذ! |
وماذا على الَقدَر المستمرِّ | لو استمرَأَ الّناسُ طعمَ الخلود |
ولم يُخْفَروا بالخرابِ المحيط | ولم يفُجعَوا في الحبيبِ الودود |
ولم يَسلكوا للخلمودِ المرجَّى | سبيلَ الرّدى ، وظَلامَ اللّحودْ |
فَدَامَ الشَّبابُ، وَسِحْرُ الغرامِ، | وفنُّ الربيعِ، ولطفُ الورُودْ |
وعاش الورى في سَلامٍ، أمينٍ | وعيشٍ، غضيرٍ، رخيٍّ، رَغيد؟ |
ولكنْ هو القَدَرُ المستبدُّ | يَلَذُّ له نوْحُنا، كالنّشيد |
تَبَرَّمْتَ بالعيشِ خوفَ الفناءِ
تَبَرَّمْتَ بالعيشِ خوفَ الفناءِ | ولو دُمْتَ حيَّا سَئمتَ الخلودْ |
وَعِشْتَ على الأرضِ مثل الجبال | جليلاً، غريباً، وَحيد |
فَلَمْ تَرتشفْ من رُضابِ الحياة | ولم تصطبحْ منْ رحيقِ الوُجود |
ولم تدرِ ما فتنة ُ الكائناتِ | وما سحْرُ ذاكَ الربيعِ الوَليد |
وما نشوة ُ الحبّ عندَ المحبِّ | وما صرخة ُ القلبِ عندَ الصّدودْ |
ولم تفتكرْ بالغدِ المسترابِ | ولم تحتفل بالمرامِ البعيدْ |
وماذا يُرجِّي ربيبُ الخلودِ | من الكون-وهو المقيمُ العهيد-؟ |
وماذا يودُّ وماذا يخافُ | من الكونِ-وهو المقيمُ الأبيد-؟ |
تأمَّلْ..، فإنّ نِظامَ الحياة ِ | نظامُ، دقيقٌ، بديعٌ، فريد |
فما حبَّبَ العيشَ إلاّ الفناءُ | ولا زانَهُ غيرُ خوْفِ اللحُود |
ولولا شقاءُ الحياة ِ الأليمِ | لما أدركَ النَّاسُ معنى السُّعودْ |
ومن لم يرُعْه قطوبُ الديَاجيرِ | لَمْ يغتبطْ بالصّباح الجديدْ |
إذا لم يكنْ من لقاءِ المنايا
إذا لم يكنْ من لقاءِ المنايا | مناصٌ لمن حلَّ هذا الوجودْ |
فأيُّ غَناءٍ لهذي الحياة | وهذا الصراعِ، العنيفِ، الّشديد |
وذاك الجمال الذي لا يُملُّ | وتلك الأغاني،وذاكَ الّنشيد |
وهذا الظلامِ، وذاك الضياءِ | وتلكَ النّجومِ، وهذا الصَّعيد |
لماذا نمرّ بوادِي الزمان | سِراعاً، ولكنّنا لا نَعُود؟ |
فنشرب من كلّ نبع شراباً | ومنهُ الرفيعُ، ومنه الزَّهيد؟ |
ومنه اللذيذُ، ومنه الكريهُ، | ومنه المُشيدُ، ومنه الُمبيد |
وَنَحْمِلُ عبْئاً من الذّكرياتِ | وتلكَ العهودَ التي لا تَعود |
ونشهدُ أشكالَ هذي الوجوهِ | وفيها الشَّقيُّ، وفيها السَّعيدْ |
وفيها البَديعُ، وفيها الشنيعُ، | وفيها الوديعُ، وفيها العنيدْ |
فيصبحُ منها الوليُّ، الحميمُ، | ويصبحُ منها العدوُّ، الحقُودْ |
غريبٌ لعَمْري بهذا الوجودْ | |
أتيناه من عالمٍ، لا نراه | فُرادى ، فما شأنُ هذي الحقُودْ؟ |
وما شأنُ هذا العَدَاءِ العنيفِ؟ | وما شأنُ هذا الإخاءِ الوَدودْ؟ |