عظيم الناس من يبكي العظاما

عظيمُ الناسِ من يبكي العظاماويَندُبُهُم ولو كانوا عِظاما
وأَكرَمُ من غمامٍ عندَ مَحْلٍفتى ً يُحيي بمدحتِهِ الكراما
وما عُذرُ المقصِّر عن جزاءٍوما يَجزِيهُمُ إلا كلاما
فهل من مُبلِغٍ غليومَ عنِّيمقالاً مُرْضِياً ذاك المقاما
رعاكَ الله من ملكٍ هُمامٍتعهَّدَ في الثَّرَى مَلِكاً هُماما
أَرى النِّسيانَ أَظمأَه، فلمَّاوقفتَ بقبرهِ كنتَ الغماما
تقرِّبُ عهدهُ للناسِ حتىتركتَ الجليلَ في التاريخِ عاما
أتدري أيَّ سلطانٍ تحيِّيوأَيَّ مُملَّكٍ تُهدي السَّلاما
دَعَوْتَ أَجَلَّ أَهلِ الأَرضِ حَرْباًوأَشرفَهم إذا سَكنوا سَلاما
وقفتَ به تذكّرهُ ملوكاًتعوَّدَ أن يلاقوهُ قياما 
وكم جَمَعَتْهُمُ حربٌ، فكانواحدائدها ، وكان هو الحسما
كلامٌ للبريّة دامياتٌوأَنتَ اليومَ مَنْ ضَمَدَ الكِلاما
فلما قلتَ ما قد قلتَ عنهوأَسمعتَ الممالكَ والأناما
تساءلتِ البريّة ُ وهيَ كلمىأَحُبّاً كان ذاكَ أَمِ انتقاما
وأَنتَ أَجلُّ أَن تُزرِي بِميْتٍوأَنْتَ أَبرُّ أَن تُؤذِي عظاما
فلو كان الدوامُ نصيبَ ملكٍلنالَ بحدِّ صارمهِ الدواما
أبيات أمير الشعراء أحمد شوقي

سما يناغي الشهبا

سما يناغي الشهبا هل مسَّها فالتهبا 
كالدَّيدبانِ ألزموهُ  في البحار مرقبا
شيع منه مركبا وقام يلقي مركبا
بشر بالدار وبالأَهلِ  السُّراة الغُيَّبا
وخَطَّ بالنُّور على لوْحِ الظلام: مَرْحَبَا
كالبارق المُلِحِّ لم يولِّ إلا عقَّبا
يا رُبَّ ليلٍ لم تَذُقْ فيه الرقاد طربا
بتنا نراعيه كما يرعى السُّراة الكوكبا
سعادة ٌ يعرفها في الناس من كان أَبَا
مَشَى على الماءِ، وجاب  كالمسيح العببا
وقام في موضعه مُستشرِفاً مُنَقِّبا
يرمي إلى الظلام طرفاٌ حائراٌ مذبذبا
كمبصرٍ أدار عيناٌ في الدجى ، وقلِّبا
كبصر الأَعشى أَصاب  في الظلام ، ونبا
وكالسراج في يَدِ الــريح  أضاءَ، وخَبا
كلمحة ٍ من خاطرٍ ما جاء حتى ذهبا
مجتنبُ العالم في عُزلته مُجْتَنَبا
إلا شراعاً ضلَّ ، أو فُلْكاً يُقاسي العَطَبا
وكان حارس الفنارِ  رجُلاً مُهذَّبا
يهوى الحياة ، ويحبَّ العيش سهلاً طيِّبا
أتت عليه سنواتٌ مُبْعَداً مُغْتَرِبا
لم يَرَ فيها زَوْجَهُ ولا ابنَه المحبَّبا
وكان قد رعى الخطيبَ  ووعى ما خطَبا
فقال : يا حارسُ  خلٍّ السُّخط والتعتُّبا
من يُسعِفُ الناسَ إذا نُودِي كلٌّ فأَبى 
ما الناس إخوتي ولا آدمُ كان لي أبا
أنظر إليَّ ، كيف أقضي  لهم ما وجَبا 
قد عشتُ في خِدمتهم ولا تراني تعبا
كم من غريقٍ قمت عند رأسه مطبَّبا
وكان جسماَ هامداً حرّكتهُ فاضطربا
وكنت وطَّأت له مَناكبي، فرَكبا
حتى أتى الشطَّ ، فبشَّ  من به ورحَّبا
وطاردوني ، فانقلب تُ خاسراَ مخيٍّبا
ما نلت منهم فضة َ ولا منحت ذهبا
وما الجزاء ؟ لا تسل كان الجزاءُ عجبا!
ألقوا عليّ شبكا وقطَّعوني إربا
واتخذ الصٌّنَّاع من شَحميَ زَيْتا طيِّباً
ولم يَزَلْ إسعافُهم ليَ الحياة َ مذهبا
ولم يزل سَجِيَّتي وعملي المُحبَّبا
إذا سمعتُ صرخة ً طرتُ إليها طربا
لا أَجِدُ المُسْعِفَ إلا ملكاً مقرَّبا
والمسعفون في غدٍ يؤلفون مَوْكبا
يقول رِضوانُ لهم هيَّا أدخلوها مرحبا
مُذنِبُكم قد غَفَر اللهُ لهُ ما أذنبا

فديناه من زائر مرتقب

فديناهُ من زائرٍ مرتقبْ بدا للوجودِ بمرأى عجبْ
تَهُزُّ الجبالَ تَباشيرُهُ كما هَزَّ عِطفَ الطَّروبِ الطَّرَب
ويُحْلِي البحارَ بلألائهِ فمِنَّا الكؤوسُ، ومنه الحبَب
منارٌ الحزونِ إذا ما إعتلى منارُ السهولِ إذا ما إنقلب
أتانا من البحرِ في زورقٍ لجيناً مجاذيفهُ من ذهب
فقلنا: سُليمانُ لو لم يَمُتْ وفرعونٌ لو حملتهُ الشُّهب
وكِسرَى وما خَمَدتْ نارُه ويوسُفُ لو أنه لم يشِبْ
وهيهاتَ ما توجوا بالسَّنا ولا عرشهم كان فوقَ السُّحب
أنافَ على الماءِ ما بينها وبينَ الجبالِ وشُمِّ الهضب
فلا هو خافٍ، ولا ظاهرٌ ولا سافرٌ، لا، ولا مُنتقِب
وليس بِثَاوٍ، ولا راحلٍ ولا بالبعيدِ، ولا المقترب
تَوارَى بِنصفٍ خلالَ السُّحُبْ ونصفٌ على جبلٍ لم يغب
يجدِّدها آية ٍ قد خلت ويذكرُ ميلادَ خيرِ العرب

أمن البحر صائغ عبقري

أَمِنَ البحرِ صائغٌ عَبْقَرِيٌّبالرمالِ النواعمِ البيضِ مغرى 
طاف تحتَ الضُّحَى عليهنَّ، والجوْهَرُ في سُوقِه يُباعُ ويُشْرَى
جئنهُ في معاصمٍ ونحوٍفكسا معصماً، وآخرَ عرى
وأبى أن يقلدَ الدرَّ والياقوتَ نحراً، وقلَّدَ الماسَ نحْرا
وترى خاتماً وراءَ بَنانٍوبَناناً من الخواتمِ صِفْرا
وسواراً يزينُ زندَ كعابٍوسواراً من زندِ حسناءَ فرّا
وترى الغِيدَ لُؤلؤاً ثَمَّ رَطْباًوجماناً حوالي الماءِ نثرا
وكأَنَّ السماءَ والماءَ شِقَّاصدفٍ، حمَّلا رفيفاً ودرَّا
وكأَنّ السماءَ والماءَ عُرْسٌمترعُ المهرجان لمحاً وعطرا
أَو رَبيعٌ من ريشة ِ الفنِّ أَبهَىمِن ربيع الرُّبى ، وأَفتنُ زَهْرا
أو تهاويل شاعرٍ عبقريٍّطارحَ البحرَ والطبيعة َ شعرا
يا سواريْ فيروزجٍ ولجينٍبها حليتْ معاصمُ مصرا
في شُعاعِ الضُّحَى يعودان ماساًوعلى لمحة ِ الأصائلِ تبرا
ومَشَتْ فيهما النّجومُ فكانتفي حواشيهما يواقيتَ زهرا
لكَ في الأرضِ موكبٌ ليس يألوالــريحَ والطيرَ والشياطينَ حشرا
سرتَ فيه على كنوز سليمانَ تعدُّ الخُطى اختيالاً وكِبْرا
وتَرنَّمْتَ في الركابِ، فقلناراهبٌ طاف في الأَناجيل يَقرا
هو لحنٌ مضي‍َّعٌ، لا جواباًقد عرفنا له، ولا مستقرا
لك في طيِّهِ حديثُ غرامٍظلَّ في خاطر الملحنِ سرَّا
قد بعثنا تحيَّة ً وثناءًلكَ يا أرفعَ الزواخر ذكرا
وغشيناكَ ساعة ً تنبشُ الماضي نبشاً، وتقتلُ الأمسَ فكرا
وفتحنا القديمَ فيك كتاباًوقرأنا الكتابَ سطراً فسطرا
ونشرنا من طيهنَّ اللياليفلَمَحنا من الحضارة ِ فَجْرا
ورأَينا مصراً تُعلِّمُ يونانَ، ويونانَ تقبِسُ العلمَ مصرا
تِلكَ تأْتيكَ بالبيانِ نبيّاًعبقرياً، وتلك بالفنّ سحرا
ورأَينا المنارَ في مطلع النَّجْــمِ على برقِهِ المُلَمَّحِ يُسرى
شاطىء ٌ مثلُ رُقعة ِ الخُلدِ حُسناًوأديمِ الشبابِ طيباً وبشرا
جرَّ فيروزجاً على فضة ِ الماءِ، وجرَّ الأصيلُ والصبح تبرا
كلما جئتهُ تهلل بشراًمن جميع الجهاتِ، وافترَّ ثغرا
انثنى موجة ً، وأقبلَ يرخيكِلَّة ً تارة ً ويَرفعُ سِترا
شبَّ وانحطَّ مثلَ أَسرابِ طيرٍماضياتٍ تلفُّ بالسهلِ وعرا
رُبما جاءَ وَهْدَة ً فتردَّىفي المهاوي، وقامَ يطفرُ صخرا
وترى الرملَ والقصورَ كأيكٍركب الوكرُ في نواحيهِ وكرا
وتَرى جَوْسَقاً يُزَيِّنُ رَوْضاًوترى رَبوة ً تزيِّنُ مصرا
سَيِّدَ الماءِ، كم لنا من صلاحٍو عليٍّ وراءَ مائكَ ذِكرى 
كم مَلأْناكَ بالسَّفينِ مَواقِيــرَ كشُمِّ الجبالِ جُنداً ووَفرا
شاكياتِ السلاحِ يخرجنَ من مصــرٍ بملومة ٍ، ويدخلن مصرا
شارعاتِ الجناحِ في ثَبَجِ الماءِ كنسرٍ يشدُّ في السحب نسرا
وكأَنّ اللُّجاجَ حينَ تنَزَّىوتسدُّ الفجاجَ كرَّا وفرَّا
أجمٌ بعضُهُ لبعضٍ عدوٌّزَحَفَتْ غابة ٌ لتمزيق أُخرَى 
قذفتْ ههنا زئيراً وناباًورَمَت ههنا عُواء وظُفرا
أنتَ تغلي إلى القيامة ِ كالقدْرِ، فلا حطَّ يومها لكَ قدرا
شعر احمد شوقي

يد الملك العلوي الكريم

يَدُ الملكِ العلَويّ الكريم على العلم هزَّت أخاه الأدبْ
لسانُ الكنانة ِ في شكرها وما هو إلا لسانُ العرب
قضَتْ مِصرُ حاجتَها يا عَليُّ ونالت ونال بنوها الأرب
وهنَّأتُ بالرُّتبِ العبقريَّ وهنَّأتُ بالعبقري الرُّتب
عليُّ ، لقد لقَّبتكَ البلادُ بآسِي الجِراحِ، ونِعْمَ اللَّقَب
سِلاحُك من أَدواتِ الحياة ِ وكلُّ سلاحٍ أَداة ُ العَطَب
ولفظُكَ بِنْجٌ، ولكنَّهُ لطيفُ الصَّبا في جفون العصب
أَنامِلُ مِثلُ بَنانِ المسيح أواسي الجراحِ ، مواحي النُّدب
تعالجُ كفَّاكَ بؤسَ الحياة ِ فكفٌّ تداوي ، وكفٌّ تهب
ويستمسك الدَّمُ في راحَتَيْكَ وفوقهما لا يقرُّ الذَّهب
كأَنك للموتِ مَوْتٌ أتيح فلم ير وجهكَ إلا هرب 

شرفاً نصيرُ ، ارفعْ جبينكَ عالياً

شرفاً نصيرُ ، ارفعْ جبينكَ عالياً وتَلقَّ من أوطانك الإكليلا
يَهنِيكَ ما أُعطِيتَ من إكرامِها ومُنِحْتَ مِن عطف ابنِ إسماعيلا
اليومَ يَومُ السَّابِقين، فكنْ فتًى لم يبغِ من قصبِ الرِّهانِ بديلا
وإذا جَرَيْتَ مع السوابق فاقتحِمْ غرراً تسيل إلى المدى وحجولا
حتى يراكَ الجمعُ أوَّلَ طالعٍ ويَرَوْا على أَعرافِك المِنْديلا
هذا زمانٌ لا توسُّط عنده يَبْغِي المُغامِرُ عالياً وجليلا
كنْ سابقاً فيه، أَو کبْقَ بِمَعْزِلٍ ليس التوسُّطُ للنُبوغِ سبيلا
ياقاهرَ الغربِ العتيدِ ، ملأته بثناءِ مِصْرَ على الشفاهِ جَميلا
قلَّبتَ فيه يداً تكاد لشدَّة ٍ في البأْسِ ترفع في الفَضاءِ الفِيلا!
إن الذي خلق الحديدَ وبأسه جعل الحديد لساعديكَ ذليلا
زَحْزَحْتَه، فتخاذلتْ أَجلادُه وطَرحْتَه أَرضاً، فصَلَّ صَليلا
لِمَ لا يَلِينُ لك الحديدُ ولم تزَلْ تتلو عليه وتقرأُ التَّنزِيلا؟
الأَزْمَة اشْتَدَّتْ ورانَ بلاؤُها فاصدمْ بركنك ركنها ليميلا
شمشونُ أَنت، وقد رَستْ أَركانُها فتَمشَّ في أَركانِها لِتَزولا
قلْ لي نصيرُ وأنت برٌّ صادقٌ أحملتَ إنساناً عليك ثقيلا ؟
أحملتَ ديناً في حياتك مرَّة ً ؟ أحملتَ يوماً في الضُّلوعِ غليلا ؟
أحملتَ ظلماً من قريبٍ غادرٍ أو كاشحٍ بالأَمسِ كان خَليلا؟
أحملتَ منًّا من قريبٍ مكرَّراً والليلِ، مِنْ مُسْدٍ إليك جَميلا؟
أحملتَ طغيانَ اللثيمِ إذا اغتنى أَو نال مِنْ جاهِ الأُمورِ قليلا؟
أحملتَ في النادي الغبيَّ إذا التقى من سامعيه الحمدَ والتّبجيلا ؟
تلك الحياة ُ، وهذه أَثقالُها وزن الحديدُ بها فعاد ضئيلا !